واشترت عنه أحاديث قبيحة، فلما قطع آمال الناس من بني جهور وأخملهم وتسمى بالسلطان. كان في بني جهور عبد الملك الأصغر من إخوته فأنف منه وعزم على الفتك به، من غير استشارة أحد في أمره. فلما كان يوم السبت سبع بقين من شهر رمضان سنة خمس وخمسين، أعد له رجاله في قصر أبيه، وأقام هو ينتظره. وأرسل عن أبيه رسولاً كان يوجه إليه. فلما وصل إلى باب ابن جهور وأراد النزول على حجر لاصق قام إليه عبد الملك بخنجر مع أعده لقتله، فضربه به. وخرج عليه الرجالة فأكملوا قتله. وقطع رأسه، وطيف به على رمح ومثل الناس به وركب عبد الملك إلى دار اللذة المختصة به، فملكها واحتوى على كل ما فيها وعلى أصغر غلمانه، واجتاز بالسجن فأطلق كل من كان فيه. وسمع أبوه محمد ابن جهور الخبر، فخرج مدهوشاً فرآه مجتذلاً فارتاع، وركب إلى الجامع وأظهر المسرة بقتل ابن السقا. وأعلنوا الشماتة به وقتل من حاشيته عشرون رجلاً، واعتصم أخوه بمنارة المسجد فنجا من القتل، ونهب مسجد ابن السقا وأخذت ثرياه.
ذكر من كان معاصراً لمن ورد على المغرب من المشرق
فصل كان أبو القاسم علي المغربي الوزير من أذكياء الناس. استظهر القرآن الكريم وعدة كتب مجردة في اللغة ونحو خمسة عشر ألف بيت من مختار للشعر القديم ونظم الشعر وتصرف في فنون النثر. وبلغ من الحظ إلى ما قصر عنه نظراؤه، ومهر في الحساب واختصر كتاب إصلاح المنطق، وكل ذلك قبل استكماله أربع عشرة سنة. ولما أوقع الحاكم صاحب مصر بأبيه وأهل بيته ونذر دمه، خرج من مصر هارباً، حتى إذا وصل مكة (شرفها الله) تعالى، حمل أبا الفتوح على القيام بها، وقرب عليه ما كان يستبعده وجسره على أخذ ما كان بها من محاريب الذهب والفضة فضربها دنانير ودراهم وفرقها فيمن تبعه من الفرسان.
ثم سار يدعو إليه حتى بلغ الرملة وصعد منبرها فتلا من غير تحميد ولا صلاة قول الله تعالى ذكره (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً) وأومأ بيده إلى مصر يعني الحاكم يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم. أنه كان من المفسدين. (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) ثم عاد إلى أبي الفتوح (وهذه) لذلك. فلما رآه عاجزاً فارقه، وخرج إلى العراق ودخل الكوفة على سلطانهم ثم خافه وزير قرواس فتقرب إليه بالمال، وأشار عليه بالرحيل، فسار إلى ميافارقين وأميرها نصر الدولة أحمد بن مروان الكردي فتقلد وزارته بعد طول مقام وخلع المرقعة والصوف ولبس المسك الشفوف وقال:
تبدّل من مرقعة ونسك ... بأنواع الممسك والشفوف
وعنّ له غزال ليس يحوي ... هواه ولا رضاه يلبس صوف
فعاد أشد ما كان انهماكاً ... كذلك الدهر مختلف الظروف
ثم (روسل) في وزارة الموصل فسار إليها وتقلدها، وبالغ في الإجحاف والاعتساف وآذى أعيان الناس. ثم روسل في وزارة بغداد وأميرها يومئذ أبو علي بن سلطان الدولة أبي شجاع بن بهاء الدولة ابن عضد الدولة ابن ركن الدولة ابن علي، فأمر ونهى وولى وعزل ونقض وأبرم، وبلغ إلى أعلا منزلة من سعة النعمة ونفاذ الكلمة. ثم إن أبي علي أوقع ببعض من كان يتهمه من الأتراك، وكان الوزير بن المغربي قد نهاه عن ذلك، وأشار إليه بغيره فما قبل منه واضطربت الأمور اضطراباً اضطرهما جميعاً إلى الهرب والاستجارة بالعرب. وقد قيل إن إخراجه الملك معه إنما كان لغرض في أن لا ينفرد بهجنة التسحب ثم روسل أبو علي في العود إلى باب سلطانه، فعاد وأقام الوزير أبو القاسم بالموصل، وقد كثر أتباعه فأقام بها يسيراً واستشعر تقصيراً به من صاحبها فاستأذنه في الرجوع إلى ميافارقين فدخلها وتلقاه نصر الدولة بالإعظام واقطعه من الأموال والضياع ما أراد. ثم روسل في وزارة بغداد فاستأذن نصر الدولة فخلا به وبين مراده وأعانه على المسير فلما كاد يستقل وكان خوف نصر الدولة عاقبة أمره، وأشير عليه بما كفاية أمره منه، فسقاه شربة كان فيها هلاكه. وكان الوزير لما أحس بالموت أوصى أن يحمل إلى الكوفة، فيدفن في حجرة أعدها هناك بإزاء قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فسير تابوته في أحسن حالة وأجمل أبهة إلى أن دفن في الموضع الذي أراداه.