وخرج عبد الملك إلى قرطبة ومعه القاضي ابن ذكوان فدخلها في أول شوال، وسكن الإرجاف بموت والده، وعرف الخليفة كيف تركه،. ووجد المنصور راحته فأحضر جماعة بين يديه وهو كالخيال لا يبين الكلام، وأكثر كلامه بالإشارات كالمسلم المودع. وخرجوا من عنده وكان أخر العهد به. ومات لثلاث بقين من شهر رمضان من السنة. وكان أوصى أن يدفن حيث يقبض، فدفن في قصره بمدينة سالم. واضطرب العسكر وتلوم ولده أياماً وفارقه بعض العسكر إلى هشام. وقفل هو إلى قرطبة فيمن بقي معه وأخذه الحزن بموت والده المنصور ولبست فتيانه المسوح والأكسية بعد الوشى والحبر.
وقام ولده عبد الملك بالأمر. وأجراه هشام الخليفة على عادة ابنه وخلع عليه، وكتب له السجل بولايته الحجابة. وكانت الفتيان قد اضطربوا، فقوم المنابذ وأصلح الفاسد. وجرت الأمور على السداد، وانشرحت الصدور بما شرع فيه من عمارة البلاد، فكان أسعد مولود ولد في الأندلس.
فصل: لما توالت على أهل طليطة الفتن المظلمة والحوادث المصضلمة، وترادف عليهم البلاء والجلاء واستباح الفرنج لعنهم الله أموالهم وأرواحهم. كان من أعيب ما جرى من النوادر الدالة على الخذلان، أن الحنطة لتقيم عندهم مخزونة خمسين سنة لا تتغير ولا يؤثر فيها طول المدة. فلما كان في السنة التي استولى عليها العدو, ما رفعت الغلات من البيادر حتى أسرع فيها الفساد فعلم أن ذلك بمشيئة الله سبحانه وتعالى لما أراده من شمول البلاء وعموم الضر واستولى العدو على طليطة فأنزل من بها على حكمه، وخرج ابن ذي النون منها على أقبح صورة وأفظع سيرة. ورآه الناس وبيده اصطرلاب يأخذ به وقتاً يرحل فيه، فتعجب منه المسلمون وضحك عليه الكافرون. وبسط الكافر العدل على أهل المدينة وحبب النظر إلى عادة طعامهم فوجد المسلمون من ذلك ما لا يطاق حمله وشرع في تغير الجامع بكنيسة في ربيع الأول سنة ست وسبعين وأربعمائة. ومما جرى في ذلك اليوم أن الشيخ الأستاذ الموامي رحمه الله صار إلى الجامع وصلى فيه، وأمر مريداً له بالقراءة، ووافاه الفرنج لعنهم الله، وتكاثروا لتغيير القبلة فما جرأ أحد منهم على إزعاج الشيخ ولا معارضته، وعصمه الله منهم إلى أن أكمل القراءة، وسجد سجدة طويلة ورفع رأسٍه وبكى على الجامع بكاء شديداً، وخرج ولم يتعرض له أحد بمكروه. وقيل للملك ينبغي أن تلبس التاج كمن كان قبلك في هذا الملك، فقال حتى نأخذ قرطبة منهم.
وأعد لذلك ناقوساً تأنق فيه وفيما رصع به من الجواهر فأكفره الله وأرغمه، ورد أمير المسلمين، ناصر الدين أبو يعقوب ابن تاشفين فيما أثر من إذلال المشركين وإرغام الكافرين (؟!) واستدراك أمور المسلمين.
فصل: كان أبو الحسن إبراهيم بن محمد بن يحيى المعروف بابن السقا. قد كابر من صعوبة الفقر، وشدة الدهر، ومعاناة الدنيا في طلب الرزق ما لا يزيد عليه، ولما مات أبوه تعلق بخدمة القضاة وشيوخ الفقهاء وترقت به الحال إلى أن تعلق بخدمة الوزير أبي الوليد بن جهور واستعمله في بعض الخدم وتصرف في قهرمة داره، وتعاظم وتكبر وتجبرا واستهان الكبائر، وأطرح الفروض وتعرض لإذلال الناس، واستحوذ على الأمور، وتطاول إلى الأموال. وبسط فيها واستبد وتفرد واستكثر من الغلمان والأصحاب، حتى خضعت له الرقاب، واتصلت به الآمال ونال الإمارة.
واستقلت وجوه العسكر والخلق إليه وصدهم عن لقاء إبراهيم بن جهور وعول في أموره على خساس الناس وإسقاطهم ومن لا مروءة له ولا غناء عنده. وأفقر دار الخدمة بقرطبة ونقلها إلى داره، وجعل الصدور والخلق يزدحمون على بابه، ولم يوفقه الله إلى أن يقيم عليه حاجباً، يجمل لقاهم ويرتب قعودهم بدهليزه. فورد على الناس من هذا وأمثاله ما أحرج صدروهم وصغر نفوسهم وبسط غلمانه أيديهم في الامتداد إلى الناس. فهو وزير في قعدة أمير وقاضي في صورة جندي، وفقيه على دين قرمطي. وكان عاهر الخلوة مجاهداً بالغلمان وافرد له داراً أسماها الناس دار اللذة، يخلو فيها بغلمانه المهتمين به إلى آخر النهار، ثم يعود إلى دار عياله.