وأيقن المصحفي بالنكبة وكف عن: اعتراض ابن أبي عامر على شيء من التدبير وابن أبي عامر يساتره ولا يظاهره، وأعرض عنه الناس واتجهوا إلى ابن أبي عامر إلى أن صار يغدو إلى قصر قرطبة ويروح وهو وحده وليس في يده من الحجابة إلا اسمها. وعوقب المصحفي بإعانته على ولايته هشام ثم سخط السلطان على المصحفي وعلى أولاده وأهله لأسبابه وأصحابه وطولبوا بالأموال وأخذوا برفع الحساب لما تصرفوا فيه وتوصل ابن أبي عامر بذلك إلى اجتثاث أموالهم وفروعهم.
وكان هشام ابن أخي المصحفي قد توصل إلى أنه سرق من رؤوس النصارى التي كانت تحمل بين يدي ابن أبي عامر في الغزوة الثالثة، ليقدم بها على الحضرة وغاظه ذلك منه، فبادر بالقتل في المطبق. قبل عمه جعفر المصحفي. واستقصى ابن أبي عامر مال جعفر حتى باع داره بالرصافة. وكانت من أعظم قصور قرطبة واستمرت بالنكبة عليه سنتين مرة يحبس ومرة يعزل ومرة يقر بالحضرة ومرة ينفى عنها، ولا يراح من المطالبة بالمال، ويعذبه غالب. ولم ينزل على هذا الحكم إلى أن استصفى ولم يبق فيه ما يحتمل واعتقل في المطبق بالزهراء إلى أن هلك وأخرج إلى أهله ميتاً، وذكر أنه سمه وضع في ماء شربه.
قال علي بن بسام: أخبرني محمد بن إسماعيل كاتب ابن أبي عامر قال: سرت مع محمد بن مسلمة فقيه ابن أبي عامر إلى الزهراء، لنسلم جسد حعفر ابن عثمان إلى أهله. وسرنا إلى منزله وكان مغطى بخلق كساء لبعض البوابين ألقاه على سريره، وغسل على فردة باب الجناح من ناحية الدار. وأخرج ولم يحضر أحد جنازته سوى إمام مسجده المستدعى للصلاة عليه. ومن حضره من داره تعجب من تصرف الزمان بأهله.
فصل ووقعت وحشة فيما بين الخليفة هشام وابن أبي عامر كان سببها تضريب الحساد فيما بينهما، وعرف أنه ما دهى إلا من حاشية القصر ففرقهم ولم يدع فيه منهم إلا من وثق به، أو عجز عنه. قد ذكر له أن الخدم قد انبسطت أيديهم في الأموال المختزنة بالقصر، وما كانت السيدة صبح أخت رائق تفعله من إخراج الأموال عندما حدث من تغيرها على ابن أبي عامر. وأنها أخرجت في بعض الأيام مائة كوز مختومة على أعناق الخدم الصقالبة. فيها الذهب والفضة, وموهت ذلك كله بالمرى والشهد وغيره من الأصباغ المتخذة لقصر الخلافة. ركبت على رؤوس الكيزان أسماء ذلك ومرت على صاحب المدينة فما شك في أنه ليس فيها إلا ما هو مكتوب عليها. وكان مبلغ ما حملته فيها من الذهب ثمانين ألف دينار.
وأحضر ابن أبي عامر جماعة وأعلمهم أن الخليفة مشغول عن حفظ الأموال بانهماكه في العبادة، وأن في إضاعتها آفة على المسلمين. وأشار لنقلها إلى حيث يؤمن عليها فيها فحمل منها خمسة آلاف دينار من الدراهم القاسمية ورقاً وسبعمائة ألف دينار جعفرية من الذهب وكانت صبح قد دافعت عما بالقصر من الأموال ولم تمكن من إخراجها، فاجتمع ابن أبي عامر بالخليفة هشام واعترف له بالفضل في حفظ قواعد الدولة فخسرت السنة الأعداء والحسدة. وعلم الحضور ما في نفوس الناس لظهور هشام ورؤيتهم له، إذ كان منهم من لم يره قط. فأبرزه الناس وركب الركبة المشهورة واجتمع لذلك من الخلق ما لا يحصى عدده. وكانت عليه الطويلة والذؤابة مسدلة والقضيب في يده زي الخلافة وإلى جانبه المنصور يسايره، وقدامه الجاجب عبد الملك عيسى.
فصل وخرج المنصور للغزاة وقد مرض المرض الذي مات فيه في صفر سنة اثنين وتسعين وثلاثمائة وواصل شن الغارات وقويت عليه العلة واتخذ له سرير من خشب ووطئ عليه ما يرقد عليه. وكان هجر الأطباء في تلك العلة لاختلافهم فيها واقتصر على أوصاف كاتبه الجزيري عبد الملك وأيقن هناك بالموت. وكان يقول أن زمامي يشتمل على عشرين ألف مرتزق ما أصبح بهم أسوأ حالة مني. واشتغل ذهنه بقرطبة وهو بمدينة سالم فلما أيقن بالوفاة أوصى ابنه عبد الملك وجماعته، وتفرقت عنه وخلا بولده وكان يكرر وصيته وكلما أراد أن ينصرف يرده وعبد الملك يبكي. وهو ينكر عليه ذلك ويقول هذا من أول العجز، وأمره أن يستخلف أخاه عبد الرحمن على العسكر إلى أن يرد قرطبة.