وكان مريداً له غير متخيل منه سكوتاً إلى ثقته، فامتثل للأمر وأطلعه على سره وبالغ في بره وبالغ محمد بن أبي عامر في مخادعته وإعادة النصح له فوصل المصحفي يدي بيده واستراح إلى كفايته، وابن أبي عامر يمكر به ويضرب عليه، ويغري به الحسدة، ويناقضه في أكثر ما يعامل به الناس، ويقضي حوائجهم. ولم تزل هذه سبيله إلى أن انحل أمر المصحفي، وقوي نجمه، وتفرد محمد بن أبي عامر بالأمر، ومنع أصحاب الحكم وجلاهم وأهلهم وشردهم وشتتهم وصادرهم، وأقام من صنائعه من استغنى به عنهم وصادر الصقالبة وأهلكهم وأبادهم في أسرع مدة بحسب استنفاد أعمارهم.
فصل قال ابن حيان وجاست النصرانية بموت الحكم ووصلوا قرطبة.
قضى الله بموت الحكم وخرجوا على أهل الثغور فوصلوا إلى باب قرطبة ولم يجدوا عند جعفر المصحفي غناء ولا نصرة. وكان مما أتى عليه أن نفراً من أهل قلعة رباح أمر بقطع سد نهرهم مما تخيله من أن في ذلك النجاة من العدو. ولم تتسع حيلته لأكثر منه وفور الجيوش وجموم الأموال. وكان ذلك من سقطات جعفر فانف محمد بن أبي عامر من هذه الريبة وأشار على جعفر بتجريد الجيش للجهاد. وخرفه سوء العاقبة في تركه. وأجمع الوزراء على ذلك إلا من شذ منهم. واختار ابن أبي عامر الرجال له وتجهز للغزاة واستصحب مائة ألف دينار، وبعد بالجيش ودخل على الثغر الجوفي ونازل حصن الحامة ودخل الربض وغنم وقفل، فوصل الحضرة بالسبي بعد اثنين وخمسين يوماً. فعظم في العيون وخلصت قلوب الأجناد له واستهلكوا في طاعته لما رأوه من كروه.
ومن أخبار كرمه ما حكاه محمد بن أفلح غلام الحكم. قال دفعت إلى ما لا أطيقه من نفقة في عرس ابنة لي ولم يبق عندي سوى لجام محلى تحلية يثقل وزنها ويخف عيارها. ولنا صاحب قصدته في دار الضرب والدهم بين يديه موضوعة. فأعلمته ما جئت له، فابتهج لما سمعه مني وأعطاني من تلك الدراهم وزن اللجام بحدائده وسيوره فملأ حجري وقمت غير مهدتي بما جرى لعظمه، وعملت العرس وفضلت لي فضلة كبيرة. وأحبه قلبي حتى لو حملني على خلع طاعة مولاي الحكم لفعلت.
فصل قال أبو حيان: كان بين المصحفي وغالب صاحب كمدينة سالم وشيخ الموالي وفارس الأندلس عداوة عظيمة، ومباينة شديدة، ومقاطعة مستحكمة. وأعجز المصحفي أمره وضعف عن مداراته وشكى ذلك إلى الوزراء فأشاروا علبيه بملاطفته واستصلاحه. وشعر بذلك ابن أبي عامر فأقبل على خدمته وتجرد لإتمام إرادته. ولم يزل على ذلك حتى خرج الأمر بأن ينهض غالب إلى قدمة جيش الثغر. وخرج ابن أبي عامر إلى غزوته الثانية، واجتمع به وتعاقدا على الإيقاع بالمصحفي. وقفل ابن أبي عامر غانماً ظافراً ببعد صيته، فخرج أمر الخليفة هشام يصرف المصحفي عن المدينة، وكانت يومئذ في يده. وخلع على ابن أبي عامر ولا خبر عند المصحفي. وملك ابن أبي عامر الباب بمولايته الشرطة وأخذ على المصحفي وجوه الخيل وخلاه ولبس بيده من الأفراد إلا أقله.
وكان ذلك بإعانة غالب له وأنه ضبط المدينة ضبطاً أنسى به أهل الحضرة من سلف من الولاة وأولي السياسة وانهمك ابن أبي عامر في صحبة غالب ففطن المصحفي لتدابير ابن أبي عامر عليه فكاتب غالباً يستصلحه وخطب أسماء ابنته لابنه عثمان. فأجابه غالب لذلك وكادت المصاهرة تتم له وبلغ ابن أبي عامر الأمر فقام قيامته، وكاتب غالباً يخوفه الختلة ويهيج حقوده وألقى عليه أهل البلاد وكاتبوه فصرفوه عن ذلك. ورجع غالب إلى ابن أبي عامر فأنكحه البنت المذكورة، وتم له العقد في محرم سنة سبع وستين.
وأدخل السلطان تلك البنت إلى قصره وجهزها إلى محمد بن أبي عامر من قبله فظهر أمره وعز سلطانه وكثرت رجاله وصار جعفر المصحفي إلى ما لا شيء. واستقدم غالباً وقلده الحجاب شركة مع جعفر المصحفي ودخل ابن أبي عامر على ابنته ليلة النيروز وكان أعظم عرس في الأندلس.