ولقي يوماً نفراً من البربر ومعه حمل عنب فسأله من أين لك هذا؟ فقال أخذته كما يأخذ الناس. فأمر به فضربت عنقه، ووضع الرأس في وسط الحمل فطيف به البلد. وكان عيوناً لا يستحسن شيئاً بعينه إلا هلك. وكان يأمر من يستحسنه من نسائه بأن تخفي محاسنها حتى لا يصيبها بعينه! وأقام بقرطبة ثمانية أشهر على أحسن ما يكون مع الرعية. ووقف منهم على كراهتهم لدولته، ويغضهم لأيامه، وبلغه قيام المرتضى بسر في الأندلس، فصمم على إهلاك قرطبة وأهلها حتى لا يعود للمروانية فيها ذكر. وينتقل إلى ساحله ويجمع شمل برابرته فيضرب بهم جميع الأندلس. فانقلب عن جميع ما كان عليه وانصرف إلى جزيرة البربر وتغاض عنهم وبسط أيديهم فيما كانوا عليه من الظلم والحيف. فوقع أهل قرطبة وغيرهم في أشد مما كانوا فيه. وأقبل على أهل قرطبة بما با يطاق من التنكيل والمغارم وانتزاع السلاح منهم وهدم جورهم وقيض أيدي الحكام عن إنصافهم.
وعطف على أغنيائهم بما استأصلهم به، وقرب إليه من الأشرار جماعة للسعي عليهم والتنبيه عليهم، وصار أكثر أهل البلد شرطية ليوكلوا على الباقي. فقل ما تلقى من أهل البلد إلا ومعه موكل عليه. وأخذ على الناس الأقطار فاندفنوا فغي البيوت وسكنوا بطون الأرض حتى خلت الأسواق من الناس، وأظلمت الدنيا وما بقي لأحد تصرف إلا تحت الليل! وصودر خلق كثير وامتهن بعضهم بالضرب الشديد، حتى صانعوا عن أنفسهم بالمال الكثير وأمر بإطلاقهم. فلما أحضرت دوابهم ليركبوها قبضت جميعها وانطلق القوم ورجاله إلى بيوتهم فكانت أعظم آفة جرت عليهم.
فلما اشتد البلاء واستجيب فيه الدعاء، وسلط الله عليه من أضعف خلقه؛ صبياناً أغماراً من صقالبة بني مروان، كان قد استخلصهم لنفسه، واستقلهم عن تعرض لنكايته، فجسروا على مواثبته في قصره، لا عن مواطأة أحد إلا ما ألقاه الله في قلوبهم. وكانوا ثلاثة يسمى أحدهم بمنجح وكان حسن الوجه، والآخر لبيب، والآخر نجيب فقتلوه ليلاً مستهل ذي القعدة من سنة ثمان وأربعمائة. في الحمام ضربه منجح بكوز نحاس ثقيل فشجه وغشي عليه. ودخل صاحباه فضرباه بالخناجر حتى مات، وسدوا عليه باب الحمام وهربوا إلى بعض الأماكن فلما استبطأ نساؤه مقامه في الحمام دخلن عليه، فوجدنه قتيلاً ممزقاً. ثم ظهر أمره وفشا قتله ففرح الناس، وحمدوا الله تعالى على خلاصهم. فاجتمعت زناتة وأرسلوا إلى أخيه القاسم صاحب اشبيلية واستدعوه وخاف أن يكون ذلك حيلة عليه، فأنقذ من رآه وعاد إليه بخبره، وأخرج إليه جسد فصلى عليه، وأمر بإنقاذه على سبته! فدفن هناك وكانت مدة خلافته أحد وعشرين شهراً وسبعة أيام فانقضى أمر علي بن حمود على هذا السبيل.
[في ذكر الوزير عيسى بن سعيد]
قال أبو مروان: لم يكن للوزير عيسى بن سعيد بيت يعرف ولا قديم يذكر وكان أبوه معلماً، فاختلف عيسى إلى الديوان، وصحب محمد بن أبي عامر، وقت حركته في دولة الحكم فبلغ به المنازل الجليلة، وكان عنده مشهوراً بيمن النقيبة، وكثر ماله وعظمت حاله، وتفاني في ما اقتناه من الضياع والأدوار، واشتمل على الملك هو وولده وصنايعه حتى صار لهم مع كل عامل نصيب. ولا ينفذ توقيع إلا بأمره، ولا يتم أمر إلا بمشورته. وكثرت أعداؤه وكثرت أعداؤه وكثر تحرزه مكنهم، ووالي كثيراً من وجوه أهل الدولة وصاهرهم بينيه فكثرت جماعته، وعظمت أموره وأخذته الألسن.
واتفق أن عبد الرحمن بن المنصور انبسط على أخيه عبد الملك في أول دولته بصحبة طائفة له وسعي عيسى هذا في تقييده فحقد عليه وحسن أيضاً لعبد الملك أن يتزوج بجارية مغنية استحسنها وعفى عنها، فحقدت أمه على عيسى. ثم اتهم من مداخلته لولد أبي بكر هشام بن عبد الجبار بن الناصر، والسعي له في الملك. وكان عيسى لا يحضر مجلس شراب عبد الملك إلا في النادر، لضعف سربه، فأمكن الأعداء القول قيه بما شاؤا لأجل منيته. وزاد الأمر حتى ظهر لعيسى تغير عبد الملك عليه. فأعمل الحيلة في الخلاص وشرع في الغدر بالدولة العامرية، والانقلاب مع المروانية.
وأقامه الوليد أبي بكر هشام على الخليفة هشام بن الحكم وأخذ الخلافة منه فدعا هشاماً إلى ذلك ولقيه خفية وقرب له البعيد، وأطمعه ببلوغ الغرض، وأن الأجناد لا تخالفه فاستجاب له هشام.