ولم يحصل سوى اليسير، وباع ما وجده فيها من رصاص وغيره على الناس بطرق الإجبار والإلزام. واعتمد في أذية الناس، وتتبعهم على مرجل يعرف بابن الخباز من خدم الدولة المحمودية، فاشتدت الحال، وعظمت المصيبة. وأفضى ذلك إلى ضعف هشام ونقض أركان خلافته. وظهر من سوء تدبير حكم القزاز المستبد بوزارته ما لا يمكن الاستمساك معه، وتعطلت الأسواق بقرطبة. ولما اتصل الخبر بما عزم الناس عليه في أمره، خاف على نفسه، فأوى إلى دار هشام بأهله وماله. وشرع في استصلاح ما لا يستصلح إلى أن أمكن من نفسه بخروجه من ظل حمايته، فوثب عليه جماعة عند ركن الجامع فقتلوه وأكبوه لوجهه. واجتمع الناس إلى أمية بن عبد العزيز العراقي، وكان أصيلاً في إثارة الفتنة، فبادر إلى القصر، وقد اتصل الخبر بهشام المخلوع، فطلع إلى أعلى القصر، وناشدهم الله وأخذ في الاعتذار إليهم وأروه رأس حكم القزاز وزيره. وقالوا هذا رأس وزيرك الذي سلطته على الأمة. ووصل الناس إلى حرمه، ونهبوه واستباحوه، وأمية ابن عبد العزيز يحرض على أخذه وقتله. وهو قد احتمى بالوقع الذي تحصن فيه وبالغ في مناشدتهم وهم لا يجيبون إلا بما يسوءه.
فلما يئس من صلاحهم أقام في موضعه ومعه أربعة من غلمانه، ولم ينزل منه إلا بأمان. فقام الوزراء وصدوا الناس عن النهب، وتحقق هشام من خلعه ذاته. لا يبقيه فيه سوى الله فسكن وسكت وأنزل إلى ساباط الجامع مع ولده وأهله، وتذلل وترسل وسأل أن يلقى في البحر حتى يستشهد وأن يحفظ في أهله وولده، وأظهر من الرقة والذلة والخشوع واشتد بع القلق، فاستولى عليه الفزع، وسأل في كسرة خبز يطعمها لبنية له صغيرة، وأهله حاسرات لا يملك لهن شيئاً ولا لنفسه. وسأل سراجاً يأنس بضوئه فأبكى من كان معه من أعدائه. ولما أصبح الوزراء أخرجوه في صخرة محمود من الشرق واقتصروا على ذلك دون الإشهاد عليه بخلع نفسه والإقرار بعجزه عن تدبير الخلافة. وتحليل المسلمين، فماله في أعناقهم من البيعة على السبيل المعهودة, وكان أمية بن العراقي المبدأ بذكره قد أقام بالقصر طامعاً في الأمر، وسولت له نفسه الخلافة، واستدعى وجوه الجند للبيعة. ولما تفرغ الوزراء من أمر هشام واعتقاله بحيث يأمنون منه فتنه، وأنكروا أمر أمية، وبخوا الجند على الوصول إليه. وألزموهم إخراجه والقبض عليه. فأطلق لسانه في سب الوزراء وأخرج من البلد.
[فصل في ذكر أبو بكر محمد بن عيسى الداني]
المعروف بابن اللبانة والسب أن أمه كانت تبيع اللبن فنشأ وتأدب وسافر وتغرب وحسن شعره، وسار ذكره، ووفد على الملوك وآخر من وفد عليه منهم المعتمد على الله فأقبل عليه وأصغى إليه. ولما نكب المعتمد وزال ملكه، وتشتت أمره واعتق، وفد هذا ابن اللبانة عليه ومدحه وأثنى عليه في أيام الجرح كما كان يثني عليه في أيام الفرح ونسب فيه إلى الوفاء وله في المعتمد كتب مؤلفة وأشعار منونة.
فصل: قال علي بن بسام: كانت وقعة بطرنة في سنة ست وخمسين وأربعمائة. وذلك أن الفرنج خذلهم الله، انتدبت منهم قطعة كثيفة ممن كان قد اضطغن حقداً لأهلها ونزلت على بلنسية في السنة المذكورة، أهلها جاهلون بالحرب، معتزون بأمر الطعن والضرب، مقبلون على اللذات من الأكل والشرب. وأظهر الفرنج الندم على منازلتها، والضعف عن مقاومة من فيها، وخدعوهم بذلك فانخدعوا، وأطعموهم فطمعوا. وكمنوا لهم في عدة أماكن جماعة من الفرسان وخرج أهل البلد بثياب زينتهم، وخرج معهم أميرهم عبد العزيز ابن أبي عامر. واستدرجهم العدو لعنه الله ثم عطفوا عليهم فاستأسروهم بالقتل والأسر، وما نجا منهم إلا من حصنه أجله وخلص الأمير نفسه. ومما حفظ عنه أنه أنشد لما أعياه الأمر: خليلي ليس الرأي في صدر واحد أسيراً على اليوم ماتريان.
قال ابن بسام: حدثني من لا أرتاب له أن الشاعر قال في أهل بلنسيه لما خرجوا على العدو في ثياب البذلى والترفه:
لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم ... حلل الحرير عليكم ألوانا
ما كان أٌبحهم فأحسنكم بها ... لو لم يكن ببطرنة ما كان
وقال هكذا جرى لأهل طليطلة فإن العدو خذله الله استظهر عليهم وقتل جماهيرهم وكان من جملة ما عنهم الفرنج من أهلها خرجوا إليهم في ثياب الترفه ألف عقارة خارجاً عما سواها.