لما عظم شأنه وقوي سلطانه خرج عليه باديس بن جيوش واستولى على قصبة مالقة وكان أهل مالقة أشاروا على ابني المعتمد حين خلوا بينهما وبين البلد بإذكاء العيون وضبط المعاقل فقفلا وتعسكرا وكان قد وصل بها من السودان المغاربة من يتزيا بشعار باديس. فلما شعر ابنا عباد بالخيل وانبساط الأيدي في القتل والأسر. وجرت خطوب كان آخرها الهروب سباحة وسياحة وإلقاء بالأنفس من شرفات الأسوار. فلما كان يوم الحد العشرين من رجب. دخل المعتمد على البلد بعد قتال شديد ثم أخرج المعتمد منه. وأطلقه نساؤه وأهله، وجعلوا في مركب. واقتحم بهم البحر ورزقهم الله السلامة فوصلوا إلى أمير المؤمنين ناصر الدين ابن يعقوب ابن تاشفين، فبقوا هنالك في كنفه تحت ظله. ولم يزل حتى حضر أجله بعد مرض شديد أصابه فمات رحمه الله في شوال سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وكانت جنازته عظيمة والنادر فيها أنهم نادوا عليه بالصلاة على الغريب بعد الملك العظيم والمقام الكريم. وكان لما أحس بالوفاة قال:
نعم هو الحق فاجأني به قدر ... من السماء فوافاني بميعاد
ولم أكن قبل ذاك النعش أعلمه ... أن الجبال تهادى فوق أعواد
فلا تزال صلاة الله نازلة ... على دفنيك لا تحصي بتعداد
ورثاه جماعة كثيرة من الشعراء وخصوصاً أبو بكر الداني المعروف بابن اللبانة. فإنه كان وفد عليه محافظة ووفاء ومدحه في تلك الحال وعزاه وابنه ورثاه وصنف في ذلك كتاباً سماه.. نظم السلوك في مواعظ الملوك. وقدح ابن بسام في الكتاب المذكور وأذرى عليه وذكر أنه لم يف بما أشار إليه.
[فصل في ذكر الفقيه ابن حفص عمر بن الحسن الهوري]
قال علي بن بسام كان صاحب الصلاة بقرطبة على عهد عبد الرحمن بن معاوية, وأفضى أمر اشبيلية على عباد وأبي حفص مدبرها فلما تمكن المعتضد واستقر وأوجس منه خيفة استأذنه في الرحيل فأذن له فتوجه إلى صقلية. ثم توجه إلى مصر فوصل إلى مكة، وسمع الناس عليه البخاري، ثم رجع إلى الأندلس واستأذن المعتضد في الإقامة بمرسية فأذن له بذلك. ثم غلب الروم على ما يجاورها. ورأى أن ينتقل منها فخاطب المعتضد برقعة يحضه فيها على الجهاد باشبيلية. فلما عاد إليها أكرمه واحترمه وفوض إليه الحل والعقد ثم استدعاه ليلة وهو سكران فقتله بيده. ولم تطل مدته بعده في الملك.
[فصل في ذكر الوزير أبو بكر ابن عمار]
قال ابن بسام كان شاعراً مغلقاً وفقيراً في مبدأ أمره. ومن جملة أخباره أنه مدح بعض أعيان شلب بقصيدة وقصده بها في آخر النهار فأخذها منه واسر إلى غلامه بشيء فغاب عنه غمز لحظة، وعاد ومعه مخلاة شعير، واعتذر بما حضر فقبلها منه كارهاً. فلما انتهت به الحال إلى الوزارة. وأفضيت به إلى أعظم رياسة، فنجم على منزل ذلك الرجل فقام إليه. وتطارح عليه فأذكره سوء فعله، وقبح جهله وأمره بإحضار القصيدة فأحضرها، وأخذها ثم أمر له بملئ المخلاة دراهم قاسمية. وقال لو كنت أعطيت براً لملأتها لك تبراً ولولا حرمتك لأوجعتك ضرباً لا عتاباً. ولم تزل بعد ذلك حاله تتردد وفساد ما بينه وبين المعتمد يتزايد إلى أن كان من خبره معه ما يأتي شرحه.