فصل في الأخبار المتعلقة بالطارئين والوافدين على جزيرة الأندلس من أول السنة الخامسة إلى سنة ٥٠٢هـ
قال علي بن بسام: ممن طرأ على الأندلس أبو العلا صاعد بن أبو الحسن البغدادية اللغوي. ولما دخل قرطبة في أيام المنصور محمد بن أبي عامر، عزم المنصور على أن يقفي به آثار أبي علي البغدادي الوافد على بني أمية، فما وجد عنده نمما يرضيه. وأعرض عنه أهل العلم وقدحوا في عمله وعقله ودينه، ولم يأخذوا عنه شيئاً لقلة الثقة به. وكان ألف فيه كتاب (سماه الفصوص) ودحضوه، ورفضوه، ونبذوه في النهر. ومن الغريب ما جرى له إذ المنصور جلس يوماً وعنده أعيان دولته من أهل العلم.
كالذبيدي والعاصمي وابن العريف وغيرهم. فقال لهم المنصور هذا الرجل الوافد علينا يزعم أنمه متقدم في هذه الأحوال الني أنتم عيونها، وأحب أن يمتحن فوجه إليه. فلما مثل بين يديه والمجلس قد احتفل خجل فرفع المنصور مجلسه، وأقيل عليه، وسأله عن أبي سعيد السيرافي. فزعم أنه لقيه وقرأ عليه كتاب سيبويه. فبادر العاصمي بالسؤال عن مسألة في الكتاب فلم يحضره جوابها واعتذر بأن النحو ليس جل بضاعته.
فقال الزبيدي: فما تحسن أيها الشيخ؟ قال حفظ الغريب. قال فما وزن أولق؟ وضحك صاعد وقال: أمثلي يسأل عن هذا؟ إنما يسأل عنه صبيان الكتب. قال الزبيدي: قد سألناك ولا نشك أنك تجهله. فتغير لونه وقال: افعل وزنه. قال الزبيدي: صاحبكم ممخرق. فقال له صاعد: أخاك الشيخ صناعته البنية. قال له: أجل. قال صاعد وبضاعتي حفظ الأشعار. ورواية الأخبار، وفك العمى وعلم الموسيقى. قال فناظره ابن العريف فظهر عليه صاعد وجعل لا يجري في المجلس كلمة إلا وأنشد عليها شعراً شاهداً. وأتى بحكاية تجانسها فأعجب المنصور ثم أراه كتاب النوادر لابن علي فقال إن أراد المنصور أمليت على مقيدي خدمته وكتاب دولته كتاباً أرفع منه وأجل لا أورد فيه خبراً مما أورده أبو علي. فأذن له المنصور في ذلك وجلس بجامع مدينة الزاهرة يملي كتابه المترجم بالفصوص. فلما أكمله تتبعه أدباء الوقت. فلم تمر فيه كلمة صحيحة عندهم ولا خبر ثبت لديهم، وسألوا المنصور في تجليد كراريس بيضاء تزال جدتها، فهم المقدم وترجم عليها النكت تأليف أبي الغوث الصنعاني. فترامى إليه صاعد حين رآه وجعل يقبله. وقال أي والله قرأته بالبلد الفلاني على الشيخ أبي فلان فأخذه المنصور من يده خوفاً أن يفتحه وقال له: إن كنت قرأته كما تزعم فعلى ما يحتوي؟ قال: وأبيك لقد بعد عهدي به ولا أحفظ الآن منه شيئاً. ولكنه يحتوي على لغة منثورة لا يشوبها شعر ولا خبر فقال له المنصور أبعد الله مثلك فما رأيت أكذب منك وأمر بإخراجه وأن يقذف بكتاب الفصوص في النهر فقال فيه بعض الشعراء:
قد غاص في النهر كتاب الفصوص ... وهكذا كل ثقيل يغوص
فأجابه صاعد عاد إلى معدنه إنما يوجد في قعر البحار الفصوص قال ابن بسام: وما أظن صاعداً يجتري على مثل هذا، وإنما صاعداً اشترط أن لا يأتي إلا بالغريب غير المشهور، وأعنتهم على نفسه بما كان يتنفق به من الكدب ومن أعجب ما جرى له أنه كان بين يدي المنصور حين أحضرت له وردة في غير وقتها لم يستتم فتح ورقها فقال فيها صاعد مرتجلاً:
أتتك أبا عامر وردة ... يذكرك المسك أنفاسها
كعذراء بصرها مبصر ... فغطت بأكمامها رأسها
فسر بذلك المنصور وكان ابن العريف حاضراً فحسده، وجرى إلى مناقضته. وقال لابن أبي عامر هذان البيتان لغيره وقد أنشدهم بعض البغداديين بمصر لنفسه وهما عندي على ظهر كتاب بخطه قال المنصور أرينه فخرج ابن العريف وركب دابته حتى أتى مجلس ابن بدر وكان أحسن أهل زمانه بديهة فوصف له ما جرى فقال:
عشوت إلى قصر عباس ... وقد جدل النوم حراسها
فألقيتها وهي في خدرها ... وقد صرع السكر أناسها
فقالت أسائر على هجعة ... فقلت بلى فرمت كأسها
ومدت يدها إلى وردة ... عكس لك الطيب أنفاسها
كعذراء أبصرها مبصر ... فغطت بأكمامها رأسها
وقالت بحق الله لا تفضحن ... في ابنة عمك عباسها
فوليت عنها على غفلة ... وما خنت ناسي ولا ناسها