للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فطار ابن العريف بها وعقلها على ظهر كتاب بخط مصري ومدار أشقر. فدخل بها على المنصور فلما قرأها اشتد غيظه على صاعد وقال: غداً امتحنه. فإن فضحه الامتحان أخرجته من البلاد فلما أصبح أمره فعبأ له طبق أزهار ورياحين وياسمين وبركة ماء حصباؤها اللؤلؤ وكان في البركة حية تسبح، وأحضر صاعد فلما شاهد ذلك فقال له المنصور إن هؤلاء يذكرون أن كلما تأتي به دعوى لا صحة لها وهذا طبق ما ظننت أنه عمل لملك مثله فإن وصفته بجميع ما فيه علمت صحة ما تذكر قال صاعد يديهه:

أبا عامر هل غير جدواك واكف ... وهل غير من جاراك في الأرض خائف

يسوق إليك الدهر كل غريبة ... وأعجب ما يلقاه عندك واصف

وشائع نور صاغها هامر الندى ... على حافتيها عبقر ورفارف

ولما تناهى الحسن فيها تقابلت ... عليها بأنواع الملاهي الوصائف

كمثل الظبا المستكنه كالنساء ... يظللها بالياسمين لفائف

وأعجب منها أنهن نواظر ... إلى بركة ضمت إليها الطرائف

وحصباها اللالئ سابح في ... من الرفش مسموم اللقا بين

وكان بجانبه مركب بمجاديف ذهب، فقال له المنصور: أحسنت إلا أنك أغفلت ذكر المركب فقال:

وأعجب منها غادة في سفينة ... مكللة تصبو إليها المهايف

وإذا راعها موج من الماء تتقي ... بسكانها ما أنذرته العواصف

وأتى بعده بأبيات من هذا المعنى فأمر له المنصور بألف دينار ومائة ثوب ورتب له في كل شهر ثلاثين ديناراً وألحقه بالندماء قال: وكان شديد البديهة في ادعاء الباطل فقال له المنصور يوماً ما الخنبشار؟ فقال حشيشة يعقد بها اللبن ببادية الأعراب وفي ذلك يقول شاعرهم:

لقد عقدت محبتها في قلبي ... كما عقد الحليب الخنبشار

وقال له يوماً وقد قدم إليه طبق فيه تمر، ما التمركل في كلام العرب؟ فقال الرجل: تمركل الرجل تمركلاً إذا التف قمع كتابه وكان مع ذلك عالماً. قال ابن بسام: وكان لابن أبي عامر فتى يسمى فاتناً أوحد لا نظير له في علم كلام العرب، فناظر صاعداً هذا فقطعه وظهر عليه وبكته فأعجب المنصور، وقال: وتوفي فاتن هذا في سنة اثنين وأربعمائة وبيعت في تركته كتب مضبوطة جليلة مصححة. وكان منقاداً لما يتنزل به من المثلة فلم يتخذ النساء كغيره. وكان في ذلك الزمان جملة في الفتيان المحابيب فيمن أخذ من الأب بأوفر نصيب قال: فرأيت تأليف الرجل منهم يعرف بحبيب، ترجمة بكتاب الاستظهار والمغالبة على من أنكر فضائل الصقالية وذكر فيه جزءاً من أشعارهم وأخبارهم ونوادرهم، قال ابن بسام: ومن عجين ما اتفق لصاعد أنه أهدى إبلاً إلى المنصور وكتب على يد موصله:

يا حرز كل مخوف وأمان كل ... مشرد ومعز كل مذلل

عبد جذبت بضيمه ورفعت من ... مقداره وأهدى إليك بابل

سميته غرسيه وبعثته ... في حبله ليصبح فيه تفاءلي

فقضى في سابق علم اله تعالى أن غرسية ملك الروم أسر في ذلك اليوم بعينه الذي بعث فيه بالإبل وسماه باسمه على التفاؤل.

فصل - قال علي بن بسام: كان عبد الملك بعد أبيه قد فوض الأمر إلى عيسى بن سعيد القطاع وزيره، واستقل بالأمر فحسده رجال الدولة العامرية، وحملوا طرفة فتى عبد الملك الجزيري على معاداته. فسمت همة طرفة لذلك الفضل: قوة وبسطة أدب له، فاصطفى من أعداء عيسى قوماً منهم عبد الملك الجزيري، فزين له التقدم عليه وأغراه به، وذكر له ما كان تهيأ لكافور مولى محمد بن طغج صاحب مصر من الملك باسم مولاه،، فاحكم طمعه فتحركت عزيمة طرفة ودبر الأمر على عيسى. وحسن لمولاه أن يعتمد على عبد الملك الجزيري في أمر الوزارة، فعارض عيسى في جميع الأشغال حتى كاد يحمله.

ثم اعتل المظفر عبد الملك فانفرد طرفة بخدمته، وكثر الأرجاف به فحمله ابن الجزيري على أن يضبط الأمر لنفسه باسم الطفل، بن مولاه على رسم كافور. ثم أمر المظفر عبد الملك فرأى أن يخرج عسكر إلى شرقي الأندلس فهش طرقه لذلك وسأل مولاه أن يخرج معه عيسى الوزير، وقد أسر الإيقاع فأجابه المظفر إلى ذلك. وأخذ في التجهيز والتحمل واستصحب وجوه القواد وكرايم الخيل لم يبق عند مولاه إلى ما لها قدر له.

<<  <   >  >>