وأخذ بيعته عليه وساعده جماعة وكاد الأمر أن يتم، وأعد رجالا للفتك بعبد الملك فأشار أحدهم إلى نظيف الفتى الكبير مولى بن أبي عامر فنضح له بقصته فاعلم عبد الملك بها لوقته فاشتغل خاطره وتوقف في أمر عيسى للخشية من أن يكون السعي عليه من عدو له، إلى أن أنهى إليه صاحب المظالم ما أقلقه. ولم يرتب له لثقته. وحدثه أن رجلا يعرف بابن دراج الوزان كان متخصصاً من العامة، وله بالوليد هشام المذكور اتصال، أعلمه نزول عيسى عليه ببعض بساتينه. وأنه سمع ابن عبد الجبار يقول له يا أبا الأصبع، والله إني لخائف والخطر عظيم، فقال له عيسى ومن تخاف أليس الملك بيدي، والخيل طوعي، والناس يرضون بفعلي فلما علم عبد الملك بهذا بطش بعيسى. ووطئ عليه أخاه عبد الرحمن ومن يليه من أصحابه فشد عزيمته وعقد معهم مجلساً للشرب، وبعث عن أكثر أصحاب عيسى، فجلس للشرب بالمجلس الكبير المشرف على النهر لعشر خلون من ربيع الأول سنة سبع وتسعين. ثم أرسل إلى عيسى وقد مضى من الشرب وقت فجاءه رسوله. وقد بدأ أيضاً يشرب مع نفر من أصحابه فدعاه إليه فلم يرتب بذلك وبادر بالركوب إلى عبد الملك، فلما وصل إليه أظهر الاستبشار به وأقبل عليه بوجهه وأعلا مجلسه.
فلما دارت الكؤوس أخذ عبد الملك في معاتبته وما قربه به عنده وعيسى منزعج من ذلك إلى أن صرح عبد الملك بما في نفسه، وألقى القدح من يده وأقبل يسبه ويغلظ له، وعيسى يتنصل ويقيم الأعذار ويناشده الله في عدم إراقة الدم. ثم أخذ عبد الملك سيفه من جانبه وعلاه به وخبطه أصحابه بسيوفهم حتى برد وخر رأسه ووضع جانباً وأمر عبد الملك أيضا بقتل صاحبيه ابن خليفته وابن فتح، وقطعا بالسيوف في المجلس. وتهارب أصحاب عيسى فمنهم من ألقى نفسه في النهر هربا من القتل فغرق، وأمر برفع رأس عيسى بباب الزاهرة وما زال هناك إلى أن فتحت الزاهرة على يد ابن عبد الجبار وذهبت الدولة العامرية.
فقام عبد الملك من ذلك المجلس ولم يعد مدة حياته، وأمر الحوطة على منازل عيسى وأصحابه وكتابه وأولاده الأكابر واستصفى جميع أموالهم، وسجن أولاده بمطبق الزهراء، وأمر محمد ابنه طلاق أخت عبد الله فطلقها. ولم تزل خليه إلى أن ذهبت دولة قومها فراجعها، فكاد الناس يحسبون أن مال عيسى مثل التراب كثرة فما وجد له منه شيء، ووقع التعجب من ذلك. ولم يزل أولاده فقراء وأعظم الناس قتل عيسى بجلالة قدره وكان أبو العلا صاعد اللغوي منقطعاً إلى عيسى فلما قتل كان أول من أنشد عبد الملك فيه بما دل على سوء عهده شعراً يقول فيه:
فتلك هامته في الجو ناطقة ... تحدث الناس من أخباره عبرا
مكتوبة الوجه بالهندي يقرؤه ... من ليس يقرأ مكتوبا ولا سطرا
[فصل في أخبار الوزير أبي محمد بن حزم]
قال بن حيان: كان ابن حزم صاحب حديث وفقه وجدل وله كتب كثيرة في المنطق والفلسفة. ولم يخل فيها من غلط، وكان شافعي المذهب يناضل الفقهاء عن مذهبه ثم صار ظاهريا فوضع الكتب إليها في هذا المذهب وثبت عليه إلا أن مات. ولان له تعلق بالآداب ثم شنع عليه الفقهاء وطعنوا فيه، وأقصاه الملوك وأبعدوه عن وطنه، وتوفي بالبادية سنة ست وخمسين وأربعمائة. وكان كثير المواظبة على التأليف وكثرة التصنيف. ومن مصنفاته كتاب (الفصل بين أهل الآراء) و (أهل النحل) وكتاب (الصادع والرادع) في الرد على من كفر أهل التأويل من فرق المسلمين، والرد على من قال بالتقليد. وكتاب حديث شرح الموطأ والكلام على مسائله، و (كتاب الجامع) في صحيح الحديث باختصار الأسانيد والاقتصار على أصحها. وكتاب (التلخيص والتخليص) في المسائل النظرية وفروعها التي لا نص عليها في الكتاب ولا الحديث وكتاب (منتقى الإجماع وبيانها من جملة ما لا يعرف فيه اختلاف) ، وكتاب (الإمامة والسياسة) في سير الخلفاء ومراتبها الندب والواجب منها. وكتاب (أخلاق النفس) ، وكتاب (الاتصال إلى أتم كتاب الخصال) ، وكتاب (كشف الالتباس ما بين أصحاب الظاهر وأصحاب القياس) ... ومن شعره بعد إحراق كتبه:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي ... تضمنه القرطاس بل هو في صدري