ومن حديثه أنه كان لأبي المحلق شرف وكان قد أتلف ماله. وبقي (المحلق) وثلاث أخوات له. ولم يترك لهم إلا ناقة واحدة وحلتي برود جيدة كان يسد بها الحقوق. فأقبل (الأعشى) من بعض أسفاره يريد منزله باليمامة. فنزل الماء الذي به (المحلق) . فقراه أهل الماء فأحسنوا قراه. فأقبلت عمة المحلق، فقالت له:"يا ابن أخي" هذا الأعشى قد نزل بمائنا، وقد قراه أهل الماء. والعرب تزعم أنه لم يمدح قوما إلا رفعهم، ولم يهج قوما إلا وضعهم. فانظر ما أقول لك: احتل في زق من خمر من عند بعض التجار، فأرسل إليه بهذه الناقة والزق وبردتي أبيك. فوالله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفه ونظر إلى عطفيه في البردتين ليقولن فيك شعرا يرفعك به". قال: "ما أملك غير هذه الناقة وأنا أتوقع رسلها". فأقبل يدخل ويخرج، ويهم ولا يفعل. فكلما دخل على عمته حضته. حتى دخل عليها فقال: "قد ارتحل الرجل ومضى". قالت: "الآن والله أحسن كان القرى: تتبعه ذلك مع مولى أبيك (وكان لأبيه مولى أسود شيخ) فحيثما لحقه أخبره عنك كنت غائبا عن الماء عند نزوله إياه، وإنك لما وردت الماء فعلمت أنه به كرهت أن يفوتك قراه. فإن هذا هو أحسن لموقعه عنده". فلم تزل تحضه حتى أتى بعض التجار فكلمه أن يقرضه ثمن زق خمر وأتاه بمن يضمن ذلك عنه فأعطاه. فوجه بالناقة والخمر والبردين مع مولى أبيه. فخرج يتبعه. فكلما مر بماء قيل: ارتحل أمس عنه. حتى صار إلى منزل (الأعشى) في (منفوحة) باليمامة. فوجد عنده عدة من الفتيان قد غداهم بغير لحم وصب لهم فضيخاً. فهم يشربون منه إذ قرع الباب، فقال: "انظروا من هذا؟ " فخرجوا فإذا رسول (المحلق) يقول كذا وكذا. فدخلوا عليه وقالوا: هذا رسول المحلق الكلابي أتاك بكيت وكيت. فقال: "ويحكم، أعرابي، والذي أرسل إلي لا قدر له. والله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفي لأقولن فيه شعر لم أقل قط مثله". ثم أذن للرسول فدخل وأناخ الجزور بالباب ووضع الزق والبردين بين يديه. فقال له: "أقره السلام وقل له: وصلتك رحم. سيأتيك ثناؤنا". وقام الفتيان إلى الجزور فنحروها وشقوا خاصرتها عن كبدها وجلدها عن سنامها، ث جاءوا بهما. فأقبلوا يشوون، وصبوا الخمر فشربوه. وأكل معهم (الأعشى) وشرب ولبس البردين ونظر إلى عطفيه فيهما فأنشأ يقول:
أرقت، وما هذا السهاد المؤرق؟. ... وما بي من سقم، وما بي من معشق
ومنها:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع، تحرق
تشب لمقررين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق
إلى أن يقول:
أبا مسمع، سار الذي قد فعلتم، ... فانجد أقوام به، ثم أعرقوا
به تعقد الأجمال في كل منزل، ... وتعقد أطراف الحبال، وتطلق
فسار الشعر وذاع في العرب. فما أتت على المحلق سنة حتى زوج أخواته الثلاث، كلك واحدة على مئة ناقة. فأيسر وشرف.
وقد رويت هذه القصة على غير هذا الوجه. وفي إحدى الروايات أنه أنشد الشعر بسوق عكاظ وقد اجتمعت عليه الناس، وإنه حض القوم على زواج بناته، وإنه ناداه بقوله: "مرحبا بسيدي وسيد قومه". وفي هذه الرواية: إن العوانس كن بناته لا أخواته، وكن ثمانية. والله أعلم.
ومن أخباره أنه هجا رجلا من (بني كلب) فقال:
بنو الشهر الحرام فلست منهم ... ولست من الكرام: بني عبيد
ولا من رهط جبار بن قرط ... ولا من رهط حارثة بن زيد
فقال له: "لا أبا لك. أنا أشرف من هؤلاء كلهم". وقد سبه الناس بهجاء الأعشى إياه.