للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال محمد تقي الدين: وهذا الحديث لا حجة فيه من وجوه:

الوجه الأول: أنه خالف ما هو أصح منه، وهي الأحاديث التي رواها مسلم في "صحيحه"، وفيها التصريح بكفر تارك الصلاة، وقد ثبت عند جميع العلماء أن الأحاديث على درجات:

الدرجة الأولى: ما اتفق عليه البخاري ومسلم.

الدرجة الثانية: ما انفرد به البخاري.

الدرجة الثالثة: ما انفرد به مسلم.

الدرجة الرابعة: ما كان على شرطهما.

الدرجة الخامسة: ما كان على شرط مسلم (١)

الدرجة السادسة: ما صحّ سنده وإن لم يكن على شرط أحد منهما.

الدرجة السابعة: ما كان إسناده حسنا.

الدرجة الثامنة: ما كان إسناده ضعيفا وليس فيه متروك ولا وضاع.

الدرجة التاسعة: ما كان في سنده متروك.

الدرجة العاشرة: ما كان في إسناده كذاب.

وأحاديث الدرجة العاشرة لا تحل روايتها إلا لبيان ما فيها من الكذب، وأحاديث الدرجة التاسعة ما يحتج بشيء منها إلا إذا تعددت طرق الحديث الواحد فإنه يرتقي إلى درجة الحسن ويحتج به إن لم يكن له معارض من درجة أعلى منه (٢) وهذا الذي احتج به بعض


(١) كذا في المطبوع، فلعله وقع شيء من كلام الشيخ رحمه الله تعالى، فالذي ينبغي أن يكون في القسم الخامس هو ما كان على شرط البخاري، والقسم السادس ما كان على شرط مسلم، فقد اصطلح المحدثون أن أعلى أقسام الصحيح ما اتفق عليه البخاري ومسلم، ثم ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم، ثم ما كان على شرطهما وإن لم يخرجاه، ثم ما كان على شرط البخاري، ثم ما كان على شرط مسلم، ثم ما صححه غيرهما من الأئمة.
(٢) هذا التقرير فيه نظر، فالمتروك يبقى متروكا ولا يخرج من دائرة الضعف، فلا ينفعه تعدد طرقه، وأكبر شاهد على ذلك أن أئمة الحديث كانوا إذا تركوا الرجل طرحوا حديثه، فالحديث الذي اشتد ضعفه مطروح لا يعتبر به، فإن المحدثين عندهم تفريق بين الطريق الذي خفّ ضعفه فيقوى الحديث بمثله أو بتعدد طرقه، وبين ما اشتد ضعفه، فالصواب أن هذا إنما يصلح في القسم الثامن، وهو ما كان في إسناده ضعيف وليس فيه متروك ولا وضاع.
قال ابن الصلاح في "المقدمة" (ص ٣٤): "ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت:
فمنه ضعف يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئا من ضعف حفظ راويه، مع كونه من أهل الصدق والديانة، فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر عرفنا أنه مما قد حفظه، ولم يختل فيه ضبطه له، وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك، كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ، إذ فيه ضعف قليل، يزول بروايته من وجه آخر.
ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك، لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهما بالكذب، أو كون الحديث شاذا".
قال الحافظ في "الأسئلة الفائقة بالأجوبة اللائقة" (ص ٦٦): "فقوله (لا يكون راويه متهما بالكذب) يشمل رواية المستور، والمدلس والمغفل والمعنعن، والمنقطع بين ثقتين حافظين، كالمرسل، فكل هذا إذا ورد اقتضى التوقف في الاجتماع به للجهل بحال المذكور فيه، أو الساقط، فإن ورد مثله، أو معناه من طريق أخرى، أو أكثر فإنها ترجح أحد الاحتمالين، لأن المستور مثلاً حيث يروي يحتمل أن يكون ضبط المروي، ويحتمل أن لا يكون ضبطه، فإذا ورد مثل ما رواه، أو معناه من وجه آخر غلب على الظن أنه ضبط، وكلما كثر المتابع قوي الظن كما في أفراد التواتر، فإن أولها من رواية الأفراد، ثم لا تزال تكثر إلى أن يقطع بصدق المروي، ولا يستطيع سامعه أن يدفع ذلك عن نفسه".
قلت: ولا يخفى على المشتغلين بهذا الفن أن الحديث الحسن لذاته في واقعه يتأرجح في أن يُحشر في قسم الحديث الضعيف، أو الصحيح إذ هو رواية مَنْ خفّ ضبطه، فلهذا جعله الحفّاظ قسمًا مستقلًا، فراوي الحديث الحسن لذاته رتبته صدوق، وأما الضعيف ففيه تفاوت فأعلى رتبة في إمكان ترشّحه للاحتجاج هو الصدوق الذي يهم، فإذا جاء من وجه آخر كان الحديث حسنا لغيره، فإذا جاء له طريق ثالث صار صحيحا بمجموع طرقه، قال الذهبي في "الموقظة" (ص ٢٨): "لا تطمع بأن للحسن قاعدة تندرج كل الأحاديث الحسان فيها، فأنا على إياس من ذلك! فكم من حديث تردد فيه الحفاظ: هل هو حسن؟ أو ضعيف؟ أو صحيح؟ بل الحافظ الواحد يتغير اجتهاده في الحديث الواحد: فيوما يصفه بالصحة، ويوما يصفه بالحسن، ولربما استضعفه! وهذا حق، فإن الحديث الحسن يستضعفه الحافظ عن أن يرقيه إلى رتبة الصحيح، فبهذا الاعتبار فيه ضعف ما، إذ الحسن لا ينفك عن ضعف ما، ولو انفك عن ذلك، لصح باتفاق".
وقد فرّق الترمذي بين الحديث الحسن لذاته، والحسن لغيره، فإنه يقول في الحديث الحسن لذاته "حديث حسن غريب"، أي: لا يروى إلا من وجه واحد، وأما إذا كان الحديث حسنًا لغيره فلا يذكر الغرابة بل يطلقه بلا قيد، وهذا معناه أنه تقوى بمجموع طرقه، كما نصّ على ذلك في "العلل الصغير" بقوله: "كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ولا يكون الحديث شاذا ويروى من غير وجه نحو ذاك فهو عندنا حديث حسن".
قال السيوطي في "التنقيح لمسألة التصحيح" (ص ٢٤): "فإني استقرئت ما صححه هؤلاء - يعني المعاصرين لابن الصلاح ومَن بعده - فوجدته من قسم الصحيح لغيره لا لذاته، وقد أعطى أئمة المحدثين المتقدمون قاعدة: (وهو أنه إذا وجد للحسن طريق آخر يشبهه حكم بصحته ويكون صحيحا لغيره لا لذاته)، فعمل هؤلاء المصححون بهذه القاعدة، فصححوا الأحاديث التي صححوها لتعدد طرقها عملا بالقاعدة المذكورة فهم في ذلك تابعون للأئمة فيما أصَّلوه وعاملون بما أوصوا به … ".

<<  <   >  >>