الحس والعقل، وكونه يفرق بين النافع والضار معناه أنه يستطيع التمييز بين أمر الله وخلقه، فإن الشرع قد فصل له ما ينفعه وما يضره، ومن زعم أن أحدا من الناس يصل به الأمر إلى درجة لا يميز فيها بين هذه المتضادات فقد ضل وافترى، وإن كان الإنسان قد يأتي عليه أحيانا ما يجعله في حالة يضعف فيها تمييزه ويقل فيها إدراكه ووعيه، كحالة السكران والمغمى عليه، هذا شيء مسلم به ولكن مع ذلك فإن إحساسه لا يذهب كله بل يبقى معه شيء من شعوره وإدراكه، فإما أن يذهب تمييزه نهائيا فهذا غير صحيح، وقوله:"ونحو ذلك" يعني كحالة النائم فإن النائم مع أنه أعظم نقصا من حالة السكران والمغمى عليه فإنه لا يذهب إحساسه كله بل يدرك ويشعر بأمور يراها في نومه مما قد يسوؤه أو يسره، فالأحوال التي تعبر عنها الصوفية بالاصطلام إنما تنشأ من عدم إحساس أصحابها ببعض الأمور ولكنها مع نقص حالة أصحابها فهي لا تصل إلى حالة يسقط معها التمييز سقوطا كاملا، ومن ادعى سقوط التمييز سقوطا تاما وعظم الفناء في مشاهدة الربوبية فقد غلط غلطا شنيعا وقصر في أمر الله وشرعه تقصيرا يخرجه إلى كفر أعظم منه في اليهود والنصارى، فإن هؤلاء مع كفرهم يقرون بنوع من الأمر والنهي والوعد والوعيد، بخلاف هؤلاء المباحية المسقطة للشرائع مطلقا، فإنهم يقولون أن العارف إذا صار في هذا المقام لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة، لشهوده الربوبية العامة والقيومية الشاملة، وحينئذ فمن ادعى سقوط التمييز سقوطا تاما فقد غلط غلطا بينا في تفريقه بين خلق الله وأمره وفي اعتقاده أن عمله هذا ممدوح فإنه لا وجود لهذا ولا مدح في عدم العلم وسقوط المعرفة، وهذا حال المتأخرين من الصوفية. قال الشيخ: "وأما أئمة الصوفية، والمشايخ المشهورون من القدماء: مثل الجنيد بن محمد وأتباعه، والشيخ عبد القادر وأمثاله، فهؤلاء من أعظم الناس لزوما للأمر والنهي، وتوصية بذلك وتحذيرا من المشي مع القدر، فالشيخ عبد القادر كلامه كله يدور على اتباع المأمور وترك المحذور، والصبر على المقدور، ولا يثبت طريقا تخالف ذلك أصلا، لا هو