للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لولا المخاوفُ والأوصابُ قدْ قطعتْ ... عرضَ الفلاةِ بنا المهريَّةُ الأُجُدُ

ولئن كان أفرط في الإحسان في البيت الأول لقد أفرط في الإساءة في البيت الآخر ولولا أنَّ قوله فلا تمالك عن أرض لها عمدوا من أحسن الكلام لفظاً وأصحِّه معنًى وأليقه بما قصدناه لأضربنا عن ذكره لقباحة ما عقب به وما المخاوف والأوصاب حتَّى يعتذر بها في التخلُّف عن الأحباب لقد بلغني أنَّ بشر بن مروان كان في معسكرٍ له بظهر البصرة فنادى بكثرة انصراف الجند من العسكر إلى المدينة فنادى مناديه من وجد بالبصرة من الجند سمِّرت كفُّه بمسمارٍ وكان في العسكر فتًى يألف خلَّةً له بالبصرة فكتب إليها.

لولا مخافة بشرٍ أوْ عقوبته وأن يسمِّر في كفِّي بمسمار إذن لعطلت ثغري ثمَّ زرتكم إنَّ المحبَّ إذا ما اشتاق زوَّار.

فكتبت إليه:

ليسَ المحبُّ الَّذي يخشى العقابَ ولوْ ... كانت عقوبتهُ في كيَّةِ النَّارِ

إنَّ المحبَّ الَّذي لا عيشَ ينفعهُ ... أوْ يستقرَّ ومنْ يهواهُ في الدَّارِ

فلمَّا قرأ الأبيات دخل البصرة فأخذه صاحب الحرس فجاء به إلى بشر بن مروان فقال له بشرٌ ألم تسمع النِّداء قال بلى قال فما حملك على مخالفته قال هذه الأبيات ودفعها إلى بشر فلمَّا قرأها أمر مناديه فنادى من أحبَّ المقام في العسكر فليقم ومن أحبَّ دخول البصرة فليدخل.

وقال آخر:

فلوْ حشدوا بالإنسِ والجنِّ دونها ... لأنْ يمنعوني أنْ أجيءَ لجيتُ

ولوْ خُلطَ السُّمُّ الذُّعافُ بريقهِ ... لسُقِّيتُ منهُ نهلةً فرويتُ

ولبعض أهل هذا العصر:

سقى اللهُ رملَ القاعِ وبلاً وديمةً ... لتحْيَ بهِ تلكَ الرُّسومُ الدَّوارسُ

أشوْقاً إلى نجدٍ ودونَ لقائها ... أهاويلُ يُخشى قطعها وبسابسُ

علَى أنَّ عبدَ الشَّوقِ ليستْ تهولهُ ... حُزونُ الفيافي واللَّيالي الدَّوامسُ

بما حبلَتْ فلتأتني منْ بلائِها ... فليسَ لما يقضي بهِ الله حابسُ

وله أيضاً:

دعانيَ الشَّوقُ والرُّكبانُ قدْ هجدوا ... والشَّمسُ في آخرِ الجوزاءِ تتَّقدُ

والقيظُ مُحتدمٌ والرُّوحُ منصرمٌ ... والرَّأيُ مختلفٌ والحتفُ مُطَّردُ

والبيدُ مُغبرَّةُ الأرجاءِ مُقفرةٌ ... كأنَّ أعلامها في الآلِ ترتعدُ

فظلْتُ طوعاً لداعي الشَّوقِ أُوقظهمْ ... وعلَّ أكثرهمْ ساهونَ ما رقدوا

حتَّى إذا قلتُ شدُّوا قالَ بعضهمُ ... قد جُنَّ هذا فخلُّوا عنهُ وابتعدوا

يذرونَ ما وجدوا من حرِّ يومهمِ ... وقتَ النُّزولِ ولا يدرونَ ما أجدُ

حرُّ الفِراقُ إذا ما الهجرُ ساعدَهُ ... حرٌّ تُخصُّ بهِ الأحشاءُ والكبدُ

وقال أبو دهبل:

أأتركُ ليلَى ليسَ بيني وبينها ... سوى ليلةٍ إنِّي إذاً لَصبورُ

هَبوني امرءاً منكمْ أضلَّ بعيرَهُ ... لهُ ذمَّةٌ إنَّ الذِّمامَ كبيرُ

وللصَّاحبُ المتروكُ أعظمُ ذِمَّةً ... علَى صاحبٍ من أن يضلَّ بعيرُ

عفا الله عن ليلَى الغداةَ فإنَّها ... إذا وليَتْ حكماً عليَّ تجورُ

وأنشدني أعرابي ببلاد نجد:

فلوْ أنَّ شرقَ الشَّمسِ بيني وبينها ... وأهلي وراءَ الغربِ حيثُ تغيبُ

لَداورْتُ قطعَ الأرضِ بيني وبينها ... وقال الهوَى لي إنَّهُ لقريبُ

ولبعض أهل هذا العصر:

يا منْ تجاوزَ حدَّ السَّمعِ والبصرِ ... ومنْ يفوقُ ضياءَ الشَّمسِ والقمرِ

لو كنتَ تعلمُ ما ألقى من السَّهرِ ... وما أُقاسي منَ الأشجانِ والفكرِ

وما تضمَّنَ قلبي من هواكَ إذاً ... لما رثيْتَ لجسمي منْ أذى المطرِ

أنَّى يضرُّ ندى الأمطارِ ذا كبدٍ ... حرَّى وقلبٍ بنارِ الشَّوقِ مُستعرِ

لو كانَ دونكَ بحرُ الصِّينِ مُعترضاً ... لخلْتُ ذاكَ سراباً دارسَ الأثرِ

ولو أذنتَ وفيما بيننا سقرٌ ... لهوَّنَ الشَّوقُ خوضَ النَّارِ في سقرِ

لا تكذبنَّ فما حالٌ تضمَّنها ... قلبُ المشوقِ توازي حالَ مُنتظرِ

وقال بعض الأسديين:

فإنْ تدعي نجداً ندعْهُ ومنْ بهِ ... وإنْ تسكُني نجداً فيا حبَّذا نجدُ

<<  <   >  >>