للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جزى لله عنا جعفرًا حين أزلفت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت

أبوا أن يملونا ولو أن أمنا ... تلاقي الذي لاقوه منا لملت

هم خلطونا بالنفوس وألجأوا ... إلى حجرات أدفأت وأظلت

فإن الأصل لملتنا وأدفأتنا وأظلتنا إلا أنه حذف المفعول من هذه المواضع ليدل على مطلوبه بطريق الكناية١، فإن قلت لا شك أن قوله "ألجأوا" أصله "ألجأونا" فلأي معنى حذف المفعول منه؟ قلت


١ قال عبد القاهر: ومن بارع ذلك -أي حذف المفعول لتتوفر العناية على إثبات الفعل للفاعل- ونادره ما تجده في هذه الأبيات، ثم قال: ففيها حذف مفعول مقصود قصده في أربعة مواضع، قوله: لملت وألجأوا وأدفأت وأظلت؛ لأن الأصل: "لملتنا وألجأونا إلى حجرات أدفأتنا وأظلتنا" إلا أن الحال على ما ذكرت لك من أنه في حد المتناهي، حتى كأن لا قصد إلى مفعول، وكأن الفعل قد أبهم أمره فلم يقصد به قصد شيء يقع عليه، كما يكون إذا قلت "قد مل فلان" تريد دخله الملال من غير أن تخص شيئًا، بل لا تزيد على أن تجعل الملال من صفته، وكما تقول: هذا بيت يدفئ ويظل، تريده أنه بهذه الصفة.
واعلم أن لك في قوله "أجرت" و"لملت" فائدة أخرى زائدة على ما ذكرت من توفير العناية على إثبات الفعل وهي أن تقول: كان من سوء بلاء القوم ومن تكذيبهم عن القتال ما يجر مثله وما القضية فيه أنه لا يتفق على قوم إلا خرس شاعرهم فلم يستطع نطقًا، وتعديتك الفعل تمنع من هذا المعنى؛ لأنك إذا قلت "أجرتني" لم يمكن أن يتأول على معنى أنه كان منها ما شأن مثله أن يجر قضية مستمرة في كل شاعر قوم، بل يجوز أن يوجد مثله في قوم آخرين فلا يجر شاعرهم، وهكذا قوله "لملت"، يتضمن أن من حكم مثله في كل أم -العموم في الفاعل وهو ضمير الأم ليس مقصودًا إنما هو من مستتبعات التراكيب وقد ذكره عبد القاهر هنا عرضا لما فيه من مبالغة وسحر- أن تمل وتسأم وأن المشقة في ذلك إلى حد يعلم أن الأم تمل له الابن وتتبرم به مع ما في طباع الأمهات من الصبر على المكاره في مصالح الأولاد، وذلك أنه وإن قال "أمنا" فإن المعنى على أن ذلك حكم كل أم مع أولادها، ولو قلت "لملتنا" لم يحتمل؛ لأنه يجري مجرى أن نقول: لدخلها ما يملها منا، وإذا قلت "ما يملها" فقيدت لم يصلح، لأن يراد به معنى العموم وأنه بحيث يمل كل أم من كل ابن. وكذلك شأن "حجرات أدفأت وأظلت"، والمعنى: من شأن =

<<  <  ج: ص:  >  >>