للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بكيت تفكرًا، ولكنه أراد أن يقول أفناني النحول فلم يبق مني وفي غير خواطر تجول، وحتى لو شئت البكاء فمريت جفوني وعصرت عيني ليسيل منها دمع لم أجده، ولخرج منها بدل الدمع التفكر، فالمراد بالبكاء في الأول الحقيقي وفي الثاني غير الحقيقي١، فالثاني لا يصلح؛ لأن يكون تفسيرًا للأول.

٢- وإما لدفع أن يتوهم السامع في أول الأمر إرادة شيء غير المراد كقول البحتري:

وكم ذدت٢ عني من تحامل حادث ... وسورة أيام حززن إلى العظم

إذ لو قال حززن اللحم لجاز أن يتوهم السامع قبل ذكر ما بعده أن الحز كان في بعض اللحم ولم ينته إلى العظم، فترك ذكر اللحم


١ فالمذكور في جواب لو خلاف الشرط فالبكاء الأول حقيقي والثاني مجازي فالبكاء الذي أراد إيقاع المشيئة عليه بكاء مطلق مبهم غير معدي إلى التفكير البتة والبكاء الثاني مقيد معدى إلى التفكير فلا يصلح أن يكون تفسيرًا للأول وبيانًا له كما إذا قلت لو شئت أن تعطي درهمًا أعطيت درهمين، كذا في دلائل الإعجاز. ومما نشا في هذا المقام من سوء الفهم وقلة التدبر ما قيل أن الكلام في مفعول أبكي والمراد أن البيت ليس من قبيل ما حذف فيه المفعول للبيان بعد الإبهام، بل إنما حذف لغرض آخر كالاختصار وقيل يحتمل أن يكون المعنى لو شئت أن أبكي تفكرًا بكيت تفكرًا أي لم يبق في مادة الدمع فصرت بحيث أقدر على بكاء التفكر فيكون من قبيل ما ذكر فيه مفعول المشيئة لغرابته. وفيه نظر؛ لأن ترتب هذا الكلام على قوله لم يبق مني الشوق غير تفكري يأبى هذا المعنى عند التأمل الصادق؛ لأن القدرة على بكاء التفكر لا تتوقف على أن لا يبقى فيه غير التفكر.
٢ ذاد: دفع، سورة الأيام: شدتها وصولتها. كم خبرية مفعول "ذدت". ومميزها قوله "من تحامل". وتحامل فلان على فلان إذالم يعدل. حززن: قطعن. والشاهد قوله:
"حززن إلى العظم"
أي: حززن اللحم إلى العظم فحذف المفعول وهو اللحم لدفع السامع في أول الأمر لإرادة شيء غير المراد.

<<  <  ج: ص:  >  >>