أيها المؤمنون! إن الصحابة رضي الله عنهم تعاملوا مع القرآن تعاملاً عظيماً، وليس هذا في جانب التلقي فقط، بل فاقوا الأمة في جوانب عديدة، من ذلك قراءتهم للقرآن، فإن الصحابة رضي الله عنهم لازموا قراءة القرآن، فكان أحدهم يلقى أخاه في الطريق فيقول: اجلس بنا نؤمن ساعة، فيقرأ أحدهم على الآخر سورة العصر، وثبت عنهم رضي الله عنهم أنهم كانوا إذا اجتمعوا جعلوا أحدهم يقرأ، والبقية يستمعون للقرآن، فالقرآن كان مخالطاً لحياتهم: في قلوبهم في مجالسهم في تذكرتهم وموعظتهم، فالقرآن دخل معهم في كل أمر، وكانوا رضي الله عنهم مقبلين عليه مشتغلين به عن غيره؛ فلذلك فاقوا غيرهم في الفقه في العمل في الجهاد فيما كتب الله على أيديهم من النصر، كل ذلك بسبب ما كانوا عليه -رضي الله عنهم- من تعهد القرآن، والإقبال عليه، والأخذ به، والاستكثار منه.
إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يكثرون من قراءة القرآن في مجالسهم في طرقهم في كل شأنهم، فهذا عثمان رضي الله عنه كان ليلة مقتله تالياً لكتاب الله جل وعلا، حتى ذكر أن الذي قتله -عليه من الله ما يستحق- قتله وكان في يديه كتاب الله جل وعلا.
أيها الإخوة الكرام! سار السلف الصالح: التابعون ومن بعدهم على منوال أولئك في قراءة الكتاب الحكيم، وفي الأخذ به رضي الله عنهم، فهذا عفان يقول: قد رأيت من هو أعبد من حماد بن سلمة، لكن ما رأيت أشد مواظبةً على الخير وقراءة القرآن والعمل لله تعالى منه رضي الله عنه.
وقال آخر: ما رأيت أحسن انتزاعاً لما أراد من آي القرآن من أبي سهيل بن زياد، وكان جارنا، وكان يديم صلاة الليل والتلاوة، فلكثرة درسه صار القرآن كأنه بين عينيه.
يعني: في الاستشهاد والاستفادة مما في هذا القرآن من الأحكام، ويقول آخر في وصف ما كان عليه مالك بن أنس إمام دار الهجرة: قيل لأخت مالك بن أنس: ما كان شغل مالك بن أنس في بيته؟ -بماذا يشتغل في بيته؟ وماذا كان يعمل في بيته؟ - قالت: المصحف والتلاوة.
هذا شغل الإمام مالك رحمه الله في بيته، المصحف والتلاوة.
والآثار في ذلك كثيرة، ومن العجيب! أن بعض السلف كان إذا اجتمع إليه أصحابه أوصاهم عند التفرق بألا يجتمعوا في سيرهم، بل يمشي كل واحد منهم بمفرده، قال لهم: إذا خرجتم من عندي فتفرقوا؛ لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه، ومتى اجتمعتم تحدثتم فانشغلتم عن القرآن.