كانت منزلة القرآن عند السلف عظيمة، وعلومه مقدمة على سائر العلوم؛ ولذلك كانوا لا يشتغلون عن القرآن بشاغل، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه منع من كتابة الحديث، حتى استقر الأمر، وميز القرآن عن غيره، وحفظ القرآن عن غيره، وقيل: إن منع النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة غير القرآن في وقته صلى الله عليه وسلم إنما كان ليتميز القرآن عن غيره، ولئلا يشتغل الناس بغير القرآن، حتى بقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد تنبه الصحابة إلى هذا الأمر فكان القرآن عندهم في الدرجة الأولى، حتى إنهم كانوا يقولون: إذا حفظ الرجل سورة البقرة جد عندنا.
أي: عظم وارتفع قدره، وكان له من المنزلة ما ليس لغيره؛ لأنها السورة التي تضمنت الأحكام الكثيرة، والأوصاف العظيمة لرب العالمين، ففيها آية الكرسي التي هي أعظم آية في كتاب الله جل وعلا.
فالصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يعدلون بالقرآن شيئاً، والناظر في أحوال كثيرٍ مِن من يشتغلون بالعلم في هذه الأزمنة يجدهم عن القرآن معرضين، والإعراض ليس إعراض هجر وبعد، وإنما هو إعراض ترتيب في أولويات طالب العلم، إن أولى وأعظم ما اشتغل به من أراد العلم أن يشتغل بالقرآن العظيم حفظاً وتلاوةً وتدبراً وفهماً للمعنى، وإقبالاً على ما قاله أهل العلم في هذا الكتاب الحكيم، وقد سار على هذا السلف الصالح، فكانوا يقدمون القرآن على كل شيء.
استمع إلى ما جرى لـ ابن خزيمة رحمه الله وهو الملقب بإمام الأئمة، يقول ابن خزيمة: استأذنت أبي في الخروج إلى قتيبة -ليتلقى عنه- فقال: اقرأ القرآن أولاً حتى آذن لك، فاستظهرت القرآن -أي: حفظته- فقال: أمسك حتى تصلي بالختمة -يعني: حتى تصلي بنا وتختم القرآن- يقول: ففعلت، فلما عيدنا -أي: انتهى رمضان- وختمت بهم القرآن أذن لي، فخرجت إلى مرو -ليطلب هذا المحدث ليتلقى عنه- وسمعت بمرو من فلان وفلان فنعي إلينا قتيبة -أي: أنه لم يدركه ولم يتلق عنه-.
والشاهد من هذا: أن السلف رحمهم الله، ومن سلك سبيلهم وسار على طريقهم، كانوا يجعلون القرآن في المرتبة الأولى في التعلم، وحال الناس اليوم أنهم يشتغلون بعلوم الآلة وبالعلوم الأخرى عن القرآن، فليس لهم نصيب من التفسير، وليس لهم نصيب من علم القرآن وما فيه من الأحكام، بل حتى الذين يشتغلون بالقرآن تفسيراً ليس لهم نصيب من القرآن في استنباط الأحكام، فالقرآن مشتمل على أحكام وحكم كثيرة تحتاج إلى استنباط، وتحتاج إلى نظر، ولا يمكن أن تستنبط ولا أن تحصّل ولا أن تدرك إلا بإمعان النظر والتأمل والقراءة في كلام العلماء، وجمع ما تفرق من كلام أهل العلم في آيات الكتاب الحكيم، فيحصل للإنسان الخير، ويحصل له الفقه بكتاب الله عز وجل، والمعرفة بالقرآن الحكيم.