كان الصحابة رضي الله عنهم يكثرون البكاء عند آيات الكتاب، ولا عجب فقد رءوا ذلك من رسولهم صلى الله عليه وسلم، وقبل ذلك فإن الله جل وعلا أثنى في كتابه على الأنبياء وعلى أولي العلم الذين يخرون للأذقان سجداً يبكون مما في هذا الكتاب من المواعظ، قال الله جل وعلا في وصف جماعة من الأنبياء:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}[مريم:٥٨]، وانظر إلى قوله:(خروا) فإنه يدل ويشعر بالمسارعة إلى السجود، وأن سجودهم سجود ذل وخضوع وانكسار وتضرع، {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}[مريم:٥٨]، وأيضاً أخبر الله جل وعلا عن قوم من أهل الكتاب فقال سبحانه وتعالى:{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}[المائدة:٨٣]، فشواهد ثناء الله جل وعلا على الباكين عند تلاوة القرآن كثيرة، وهي من الفضائل التي امتدح الله بها من امتدح من النبيين، وأولي العلم، ومَنْ تعقلوا وتدبروا ما في هذا الكتاب من الحكم، ولذلك كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أعظم الخلق نصيباً في ذلك، ففي حديث عبد الله بن الشخير قال:(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا -أي: يصلي بالصحابة- وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء) والأزيز: هو الحركة والحنين الناتج عن التدبر والتأثر بالقرآن الحكيم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:(اقرأ عليَّ، فقال عبد الله رضي الله عنه: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني أحب أن أسمعه من غيري، يقول: فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت قول الله تعالى:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا}[النساء:٤١] فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك، فإذا عيناه تذرفان) فبكى صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم متأثراً بالقرآن.
هذان مثالان فقط، وإلا فإن البكاء من هديه صلى الله عليه وسلم، فإنه كان كثير البكاء والتأثر بالقرآن؛ لما تضمنه من الحكم والعبر والآيات.