إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطانا معياراً دقيقاً وميزاناً واضحاً في مسألة الخيرية، فقال صلى الله عليه وسلم:(خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وهذه شهادة من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم -وهو الذي لا ينطق عن الهوى- في فضيلة تعلم القرآن وتعليمه، (خيركم) أي: خير هذه الأمة، (من تعلم القرآن) وليس التعلم هنا فقط تعلم الألفاظ، إنما هو تعلم اللفظ مع المعنى (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) فإقبال المرء على القرآن دليل واضح على خيريته، وله من الخيرية بقدر هذا الإقبال، فالذي يُقبل -فقط- على حفظ القرآن فيه من الخيرية ما يقابل الحفظ فقط، والذي يقبل على حفظه وفهم معناه، وتدبر واستنباط الحكم والأحكام منه، فهذا فيه من الخيرية ما ليس في غيره، ومن يقبل على هذا كله: حفظاً وفهماً وتدبراً ويعقب ذلك بالعمل فهذا فيه من الخير ما ليس في غيره، وهلم جراً، فبقدر أخذك للقرآن علماً وعملاً بقدر ما يكون معك من الخير، وبقدر ما يحصل لك الكمال إذا استكملت مراتب التعلم، ثم انتقلت إلى مراتب التعليم.
فالتعليم للقرآن العظيم من خير الأعمال؛ لأنه به تحفظ الشريعة، وليس فقط -كما ذكرنا- التعليم للفظ بل التعليم للفظ والمعنى، والعجيب! أنك إذا نظرت إلى سير العلماء على اختلاف أزمانهم ودرجاتهم في العلم ونفعهم الأمة تجد أنهم في آخر أعمارهم يتحسرون أو يندمون على عدم الاشتغال بالقرآن، وودوا لو أنهم أعطوا القرآن من النظر والبحث والتأليف والقراءة ما لم يعطوه لغيره من العلوم؛ وذلك لما وجدوا في القرآن من الأثر والنفع والبقاء، فإن في القرآن من العلم ما ليس في غيره، ويكفي في ذلك قول الله جل وعلا:{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}[العنكبوت:٤٩]، وقد طلب الكفار من النبي صلى الله عليه وسلم الآيات والمعجزات فجاءهم الجواب في قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}[العنكبوت:٥١]، فالكتاب أعظم آيات الأنبياء، وأعظم حجة، وأعظم برهان، لكنه حجة وبرهان لمن تدبره وتأمله وأقبل عليه.
فالقرآن:(يرفع الله به أقواماً ويضع به آخرين) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أدل ولا أصدق من وقوع هذا الحديث في واقع الأمة، فقد رفع الله جل وعلا سلف الأمة لأخذهم القرآن، ورفع الله القرون المفضلة؛ لما كانوا عليه من الإقبال على هذا القرآن: قراءةً وعلماً وعملاً وتعليماً ودعوةً وغير ذلك من أوجه الانتفاع بالقرآن الحكيم.