{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} [الأعراف: ١٤٨] نَبَّهَ بِهَذَا الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يُكَلِّمُ وَلَا يَهْدِي لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى عَنِ الْعِجْلِ: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: ٨٩] فَجَعَلَ امْتِنَاعَ صِفَةِ الْكَلَامِ وَالتَّكْلِيمِ وَعَدَمَ مِلْكِ الضَّرِّ وَالنَّفْعِ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْإِلَهِيَّةِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ سَمْعِيٌّ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ لَا بُدَّ أَنْ يُكَلِّمَ وَيَتَكَلَّمَ وَيَمْلِكَ لِعِبَادِهِ الضَّرَّ وَالنَّفْعَ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ إِلَهًا.
وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ - وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ - وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: ٨ - ١٠] نَبَّهَ بِهَذَا الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْقَاطِعِ أَنَّ الَّذِي جَعَلَكَ تَتَصَرَّفُ وَتَتَكَلَّمُ وَتَعْلَمُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا عَالِمًا، وَأَيُّ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ قَطْعِيٍّ أَقْوَى مِنْ هَذَا وَأَبْيَنُ وَأَقْرَبُ إِلَى الْعُقُولِ؟
وَقَالَ تَعَالَى فِي آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَطِّلِينَ: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: ١٩٥] فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ عَدَمَ الْبَطْشِ وَالسَّمْعِ وَالْمَشْيِ وَالْبَصَرِ لَهُمْ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ إِلَهِيَّةِ مَنْ عَدِمَتْ مِنْهُ هَذِهِ الصِّفَاتُ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ بِضِدِّ صِفَةِ أَوْثَانِهِمْ، وَبِضِدِّ مَا وَصَفَهُ بِهِ الْمُعَطِّلَةُ وَالْجَهْمِيَّةُ، فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفِعْلِ بِالْيَدَيْنِ وَالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ، وَذَكَرَ ضِدَّ صِفَاتِ الْأَصْنَامِ الَّتِي جَعَلَ امْتِنَاعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِيهَا دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ إِلَهِيَّتِهَا.
فَتَأَمَّلْ آيَاتِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى كَثْرَتِهَا وَتَفَنُّنِهَا وَاتِّسَاعِهَا وَتَنَوُّعِهَا، تَجِدْهَا كُلَّهَا قَدْ أَثْبَتَتِ الْكَمَالَ لِلْمَوْصُوفِ بِهَا وَأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِذَلِكَ الْكَمَالِ، فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ شَبِيهٌ وَلَا مَثِيلٌ، وَأَيُّ دَلِيلٍ فِي الْعَقْلِ أَوْضَحُ مِنْ إِثْبَاتِ الْكَمَالِ الْمُطْلَقِ لِخَالِقِ هَذَا الْعَالَمِ وَمُدَبِّرِهِ وَمَلِكِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَيُّومِهِمَا؟ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْلِ إِثْبَاتُ جَمِيعِ الْكَمَالِ لَهُ فَأَيُّ قَضِيَّةٍ تَصِحُّ فِي الْعَقْلِ بَعْدَ هَذَا؟ وَمَنْ شَكَّ فِي أَنَّ صِفَةَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَالْحَيَاةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقَدَرِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَى وَالْفَرَحِ وَالرَّحْمَةِ كَمَالٌ فَهُوَ مِمَّنْ سُلِبَ خَاصَّةَ الْإِنْسَانِيَّةِ وَانْسَلَخَ مِنَ الْعَقْلِ، بَلْ مَنْ شَكَّ أَنَّ إِثْبَاتَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَمَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ مَعَهُمَا كَمَالٌ فَهُوَ مُصَابٌ فِي عَقْلِهِ.
وَمَنْ شَكَّ أَنَّ كَوْنَهُ يَفْعَلُ بِاخْتِيَارِهِ مَا شَاءَ وَيَتَكَلَّمُ إِذَا شَاءَ، وَيَنْزِلُ إِلَى حَيْثُ شَاءَ، وَيَجِيءُ إِلَى حَيْثُ شَاءَ غَيْرُ كَمَالٍ فَهُوَ جَاهِلٌ بِالْكَمَالِ، وَالْجَمَادُ عِنْدَهُ أَكْمَلُ مِنَ الْحَيِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute