للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَلَمَّا وَصَلَتِ الْقَدَرِيَّةُ إِنْكَارَ عُمُومِ قُدْرَةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَمَشِيئَتِهِ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، وَأَخْرَجَتْ أَفْعَالَ عَبْدِهِ خَيْرَهَا وَشَرَّهَا عَنْ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لِخَلْقِهِ، وَأَثْبَتَتْ لِلَّهِ تَعَالَى شَرِيعَةً بِعُقُولِهِمْ حَكَمَتْ عَلَيْهِ بِهَا، وَاسْتَحْسَنَتْ مِنْهُ مَا اسْتَحْسَنَتْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَاسْتَقْبَحَتْ مِنْهُ مَا اسْتَقْبَحَتْهُ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَعَارَضَتْ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى خِلَافِ مَا أَصَّلُوهُ وَبَيْنَ الْعَقْلِ، ثُمَّ رَامُوا الرَّدَّ عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ فَعَجَزُوا عَنِ الرَّدِّ التَّامِّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِ كُلَّ الرَّدِّ مَنْ تَلَقَّى أُصُولَهُ عَنْ مِشْكَاةِ الْوَحْيِ وَنُورِ النُّبُوَّةِ، وَلَمْ يُؤَصِّلْ أَصْلًا بِرَأْيِهِ.

فَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ عُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْئِلَةَ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُوسَى وَعِيسَى مُخْبِرًا بِهَا عَنْ عَدُوِّهِ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ بِكَثِيرٍ مِنْ قَوْلِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَإِدْخَالُ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَهَا فِي تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، كَمَا نَجِدُ بِالْمُسْلِمِينَ مَنْ يُدْخِلُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ كَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْأَخْبَارِ وَالْقِصَصِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ الْأُمَمِ عُلُومًا وَعُقُولًا، فَمَا الظَّنُّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ؟

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ لِعَدُوِّ اللَّهِ: قَدْ نَاقَضْتَ فِي أَسْئِلَتِكَ مَا اعْتَرَفْتَ بِهِ غَايَةَ الْمُنَاقَضَةِ، وَجَعَلْتَ مَا أَسْلَفْتَ مِنَ التَّسْلِيمِ وَالِاعْتِرَافِ مُبْطِلًا لِجَمِيعِ أَسْئِلَتِكَ مُتَضَمِّنًا لِلْجَوَابِ عَنْهَا قَبْلَ ذِكْرِهَا، وَذَلِكَ أَنَّكَ قُلْتَ: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ - إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: ٣٩ - ٤٠] فَاعْتَرَفْتَ بِأَنَّهُ رَبُّكَ وَخَالِقُكَ وَمَالِكُكَ، وَأَنَّكَ مَخْلُوقٌ لَهُ مَرْبُوبٌ تَحْتَ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَإِنَّمَا شَأْنُكَ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي نَفْسِكَ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ الْمَأْمُورِ الْمَنْهِيِّ الْمُسْتَعْذِبِ لِأَوَامِرِ سَيِّدِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَهَذِهِ الْغَايَةُ الَّتِي خُلِقْتَ لَهَا، وَهِيَ غَايَةُ الْخَلْقِ وَكَمَالُ سَعَادَتِهِمْ، وَهَذَا الِاعْتِرَافُ مِنْكَ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِزَّتِهِ يَتَضَمَّنُ إِقْرَارَكَ بِكَمَالِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَغِنَاهُ، وَأَنَّهُ فِي كُلِّ مَا أَقَرَّ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لَمْ يَأْمُرْ عَبْدَهُ لِحَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدَهُ، وَلَا نَهَاهُ بُخْلًا عَلَيْهِ بِمَا نَهَاهُ، بَلْ أَمَرَهُ رَحْمَةً مِنْهُ بِهِ وَإِحْسَانًا إِلَيْهِ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ وَمَا لَا صَلَاحَ لَهُ إِلَّا بِهِ، وَنَهَاهُ عَمَّا فِي ارْتِكَابِهِ فَسَادُهُ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، فَكَانَتْ نِعْمَتُهُ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ أَعْظَمَ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ بِمَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ وَلِبَاسِهِ وَصِحَّةِ بَدَنِهِ بِمَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي آخِرِ فَصْلٍ مَعَ الْأَبَوَيْنِ: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: ٢٦] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ لِبَاسَ التَّقْوَى وَزِينَتَهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ وَالرِّيشِ وَالْجَمَالِ الظَّاهِرِ.

<<  <   >  >>