فَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ عَبْدَهُ وَجَمَّلَ ظَوَاهِرَهُمْ بِأَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَجَمَّلَ بَوَاطِنَهُمْ بِهِدَايَتِهِمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلِهَذَا كَانَتْ صُورَتُكَ قَبْلَ مَعْصِيَةِ رَبِّكَ مِنْ أَحْسَنِ الصُّوَرِ، وَأَنْتَ مَعَ مَلَائِكَتِهِ الْأَكْبَرِينَ، فَلَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ جَعَلَ صُورَتَكَ وَشَنَاعَةَ مَنْظَرِكَ مَثَلًا يُضْرَبُ لِكُلِّ قَبِيحٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: ٦٥] فَهَذِهِ أَوَّلُ نَقْدَةٍ تَعَجَّلْتَهَا مِنْ مَعْصِيَتِهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَعْلَمُ الْعَالِمِينَ وَأَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرِ الْعِبَادَ إِلَّا بِمَا فِعْلُهُ خَيْرٌ لَهُمْ وَأَصْلَحُ وَأَنْفَعُ لَهُمْ مِنْ تَرْكِهِ فَأَمَرَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ لِمَصْلَحَةٍ عَائِدَةٍ عَلَيْهِمْ، كَمَا رَزَقَهُمُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ النِّعَمِ، فَالسُّعَدَاءُ اسْتَعْمَلُوا أَمْرَهُ وَشَرْعَهُ لِحِفْظِ صِحَّةِ قُلُوبِهِمْ وَكَمَالِهِ وَصَلَاحِهَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِعْمَالِهِمْ رِزْقَهُ لِحِفْظِ صِحَّةِ أَجْسَامِهِمْ وَصَلَاحِهَا، وَتَيَقَّنُوا أَنَّهُ كَمَا لَا بَقَاءَ لِلْبَدَنِ وَلَا صِحَّةَ وَلَا صَلَاحَ إِلَّا بِتَنَاوُلِ غِذَائِهِ الَّذِي جُعِلَ لَهُ، فَكَذَلِكَ لَا صَلَاحَ لِلْقَلْبِ وَالرُّوحِ، وَلَا فَلَاحَ وَلَا نَعِيمَ إِلَّا بِتَنَاوُلِ غِذَائِهِ الَّذِي جُعِلَ لَهُ.
هَذَا وَإِنْ أَلْقَيْتَ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ لِلْمُكَلَّفِينَ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ، وَلَا مَنْفَعَةَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا خَيْرَ، وَلَا فَرْقَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ فِعْلِ هَذَا وَتَرْكِ هَذَا، وَلَكِنْ أُمِرُوا وَنُهُوا لِمُجَرَّدِ الِامْتِحَانِ وَالِاخْتِيَارِ وَلَا فَرْقَ، فَلَمْ يُؤْمَرُوا بِحَسَنٍ وَلَمْ يُنْهَوْا عَنْ قَبِيحٍ، بَلْ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا حَسَنٌ وَلَا قَبِيحٌ، وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِكَ وَأَمْرِهِمْ أَنَّكَ أَوْحَيْتَ إِلَيْهِمْ هَذَا فَرَدُّوا بِهِ عَلَيْكَ فَجَعَلُوهُ جَوَابَ أَسْئِلَتِكَ فَدَفَعُوهَا كُلَّهَا، وَقَالُوا: إِنَّمَا تَتَوَجَّهُ هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ فِي حَقِّ مَنْ يَفْعَلُ لِعِلَّةٍ أَوْ غَرَضٍ، وَأَمَّا مَنْ فِعْلُهُ بَرِيءٌ مِنَ الْعِلَلِ وَالْأَغْرَاضِ فَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ سُؤَالٌ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ حَقًّا فَقَدِ انْدَفَعَتْ أَسْئِلَتُكَ كُلُّهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَاطِلًا وَالْحَقُّ فِي خِلَافِهَا فَقَدْ بَطَلَتْ أَسْئِلَتُكَ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ، يُوَضِّحُهُ:
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ تَقُولَ لِعَدُوِّ اللَّهِ: إِمَّا أَنْ تُسَلِّمَ حُكْمَ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَإِمَّا أَنْ تَجْحَدَهُ وَتُنْكِرَهُ، فَإِنْ سَلَّمْتَهَا وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكِيمٌ فِي خَلْقِكَ حَكِيمٌ فِي أَمْرِكَ بِالسُّجُودِ، بَطَلَتِ الْأَسْئِلَةُ وَكُنْتَ مُعْتَرِفًا بِأَنَّكَ أَوْرَدْتَهَا عَلَى مَنْ تُبْهِرُ حِكْمَتُهُ الْعُقُولَ، فَبِتَسْلِيمِكَ هَذِهِ الْحِكْمَةَ الَّتِي لَا سَبِيلَ لِلْمَخْلُوقِينَ إِلَى الْمُشَارَكَةِ فِيهَا يَعُودُ عَلَى أَسْئِلَتِكَ الْفَاسِدَةِ بِالنَّقْضِ، وَإِنْ رَجَعْتَ عَنِ الْإِقْرَارِ لَهُ بِالْحِكْمَةِ، وَقُلْتَ: لَا يَفْعَلُ لِحِكْمَةٍ الْبَتَّةَ بَلْ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: ٢٣] فَمَا وَجْهُ إِيرَادِ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ عَلَى مَنْ لَمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute