الْمُنْقَطِعِ سَرْمَدًا أَبَدَ الْآبِدِينَ لَا انْقِطَاعَ لَهُ الْبَتَّةَ؟ بِخِلَافِ النِّعْمَةِ، فَإِنَّهُ مَحْضُ فَضْلِهِ، فَدَوَامُهُ لَا يُنَافِي الْحِكْمَةَ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ مِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَلَوْ عَاشَ أَبَدًا كَانَ عِقَابُهُ مُوَافِقًا لِهَذِهِ النِّيَّةِ وَالْإِصْرَارِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعُقُوبَةَ الدَّائِمَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُصَالَحَةً لِلْمُعَاقَبِ، أَوْ لِلْمُعَاقِبِ، أَوْ لَهُمَا، أَوْ غَيْرِهِمَا، أَوْ لَا مَصْلَحَةَ فِيهَا الْبَتَّةَ، وَالْأَقْسَامُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ.
أَمَّا الْمُعَاقِبُ فَإِنَّهُ إِنَّمَا تَكُونُ الْعُقُوبَةُ مَصْلَحَةً فِي حَقِّهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا لِشِفَاءِ غَيْظِهِ وَإِطْفَاءِ نَارِ غَضَبِهِ الَّتِي يَتَأَذَّى بِبَقَائِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَلَمْ يَبْلُغِ الْعِبَادُ ضُرَّهُ فَيَضُرُّوهُ، وَلَا نَفْعَهُ فَيَنْفَعُوهُ، وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَ خَلْقِهِ وَآخِرَهُمْ، وَإِنْسَهُمْ وَجِنَّهُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا ضَرَّهُ ذَلِكَ شَيْئًا، وَلَا نَقَصَهُ مِنْ مُلْكِهِ شَيْئًا، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ لِلْمُعَاقِبِ وَلَا لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ فَظَاهِرٌ، فَتَعَيَّنَ الْقِسْمُ الْأَخِيرُ وَهُوَ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ فِيهَا، وَدُونَ كَذَلِكَ فَهُوَ عَبَثٌ يَتَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ، سُبْحَانَهُ أَنْ يَخْلُقَ بَاطِلًا أَوْ سُدًى أَوْ عَبَثًا أَوْ خَالِيًا عَنْ مَصْلَحَةٍ وَحِكْمَةٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا قِيلَ: وُضِعَتِ الْعُقُوبَةُ لِمَصْلَحَةٍ، وَتَقَدَّرَتْ بِقَدْرِهَا، فَإِذَا حَصَلَتِ الْحِكْمَةُ وَالْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْهَا وَتَرَتَّبَ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي قُصِدَتْ بِهَا عَادَ الْأَمْرُ إِلَى الرَّحْمَةِ وَالْجُودِ.
ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ النُّفُوسَ الظَّالِمَةَ الْكَافِرَةَ لَهَا بِدَايَةٌ وَتَوَسُّطٌ وَنِهَايَةٌ، فَهِيَ فِي بِدَايَتِهَا قَابِلَةٌ لِلْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَلِهَذَا لَمْ يُعَذِّبْهَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَإِنْ عُلِمَ مِنْهَا أَنَّهَا تَخْتَارُ الْكُفْرَ، وَأَمَّا فِي حَالِ تَوَسُّطِهَا مِنْ حَيْثُ عَقِلَتْ وَقَامَتْ عَلَيْهَا الْحُجَّةُ فَإِنَّهَا اسْتَحَقَّتِ الْعَذَابَ حِينَئِذٍ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ مَعَ الْجِنَايَةِ، فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ تَأْخِيرَهَا إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ لَعَلَّهَا أَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ، فَضَرَبَ لَهَا مُدَّةَ الْحَيَاةِ أَجَلًا وَأَمَدًا تَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ وَاسْتِدْرَاكِ الْفَارِضِ، فَلَمَّا لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ خَتَمَ عَلَيْهَا الْعُقُوبَةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا إِنَّمَا اسْتَمَرَّتْ فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ عَلَى غَيِّهَا وَكُفْرِهَا لِقِيَامِ الْأَسْبَابِ الَّتِي زَيَّنَتْ لَهَا ذَلِكَ، وَلَوْلَا تِلْكَ الْأَسْبَابُ لَآثَرَتْ رُشْدَهَا، فَإِنَّهُ مُقْتَضَى فِطْرَتِهَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ تِلْكَ الْأَسْبَابَ تَبْطُلُ وَتَضْمَحِلُّ فِي الْآخِرَةِ وَلَا سِيَّمَا فِي دَارِ الْعَذَابِ، بَلْ إِنَّمَا وُضِعَتْ تِلْكَ الدَّارُ لِإِزَالَةِ تِلْكَ الشُّرُورِ، وَكَيْفَ تَدُومُ تِلْكَ الْأَسْبَابُ وَقَدْ ذَاقُوا عُقُوبَتَهَا وَأَلَمَهَا الشَّدِيدَ، وَتَيَقَّنُوا أَنَّهَا كَانَتْ أَضَرَّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ وَنَدِمُوا عَلَيْهَا أَعْظَمَ النَّدَمِ، وَلَيْسَ فِي الطَّبِيعَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْإِصْرَارُ عَلَى تِلْكَ الْأَسْبَابِ وَإِيثَارُهَا بَعْدَ طُولِ التَّأَلُّمِ الشَّدِيدِ بِهَا، نَعَمِ الْعَذَابُ بَاقٍ مَا بَقِيَتْ، فَإِذَا قُدِّرَ زَوَالُهَا وَتَبَدُّلُهَا وَإِقْرَارُ أَصْحَابِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute