وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: " «إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ» " فَإِذَا كَانَ ذَاتُ الْغَضَبِ الشَّدِيدِ لَا يَدُومُ وَلَا يَسْتَمِرُّ بَلْ يَزُولُ، وَهُوَ الَّذِي سَعَّرَ النَّارَ، فَإِنَّهَا إِنَّمَا سُعِّرَتْ بِغَضَبِ الْجَبَّارِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَإِذَا زَالَ السَّبَبُ الَّذِي سَعَّرَهَا، فَكَيْفَ لَا تُطْفَأُ، وَقَدْ طَفِئَ غَضَبُ الرَّبِّ وَزَالَ.
وَهَذَا بِخِلَافِ رِضَاهُ فَإِنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ دَائِمٌ بِدَوَامِهَا، وَلِهَذَا دَامَ نَعِيمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالرِّضَا، كَمَا يَقُولُ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ: " «إِنِّي أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ أَبَدًا» " فَكَيْفَ يُسَاوَى بَيْنَ مُوجِبِ رِضَاهُ وَمُوجِبِ سُخْطِهِ فِي الدَّوَامِ، وَلَمْ يَسْتَوِ الْمُوجِبَانِ.
الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّهُ كَمَا قَيَّدَ الْغَضَبَ الشَّدِيدَ بِذَلِكَ الْيَوْمِ قَيَّدَ الْعَذَابَ الْمُرَتَّبَ عَلَيْهِ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف: ٦٥] وَقَوْلِهِ: {وَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [مريم: ٣٧] فَجَعَلَ الْعَذَابَ وَالْمَشْهَدَ وَاقِعَيْنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ، بَلْ جَعَلَ الْعَذَابَ يَوْمَ الْعَذَابِ أَبَدًا.
وَلَا يُقَالُ فِي الشَّيْءِ الْأَبَدِيِّ الَّذِي لَا يَفْنَى وَلَا يَبِيدُ: إِنَّهُ عَمَلُ يَوْمٍ، وَطَعَامُ يَوْمٍ، وَعَذَابُ يَوْمٍ، وَلَمْ يُنْتَقَصْ هَذَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} [القمر: ٣٨] وَلَا بِقَوْلِهِ: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر: ١٩] فَإِنَّ اسْتِقْرَارَهُ وَاسْتِمْرَارَهُ لَا يَقْتَضِي أَبَدِيَّتَهُ لُغَةً وَلَا عُرْفًا وَلَا عَقْلًا، وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ بَطْنِ الْأُمِّ أَنَّهُ مُسْتَقَرُّ الْجَنِينِ بِقَوْلِهِ: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} [الحج: ٥] وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} [الأنعام: ٩٨] سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَقَرُّ صُلْبَ الْأَبِ وَالْمُسْتَوْدَعُ بَطْنَ الْأُمِّ أَوْ عَكْسَ ذَلِكَ، أَوْ دَارَ الدُّنْيَا وَدَارَ الْبَرْزَخِ، كَمَا هِيَ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ، فَالْمُسْتَقَرُّ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَبَدِيٌّ، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَمِرُّ لَا يَدُلُّ عَلَى الْأَبَدِيَّةِ.
فَاسْتِقْرَارُ كُلِّ شَيْءٍ وَاسْتِمْرَارُهُ وَدَوَامُهُ وَخُلُودُهُ وَثَبَاتُهُ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْبَقَاءِ وَالْإِقَامَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ: ٢٣] وَهَذَا لَا يُقَالُ فِي لُبْثٍ لَا انْتِهَاءَ لَهُ، وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عِنْدَ مَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute