تَأَوَّلَهَا أَنَّهُمْ يَلْبَثُونَ فِيهَا أَحْقَابًا لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا، أَيْ لَا يَذُوقُونَ فِي تِلْكَ الْأَحْقَابِ بَرْدًا وَلَا شَرَابًا: لَا يُفِيدُهُمْ شَيْئًا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى تَأْوِيلِهِ أَنَّهُمْ يَذُوقُونَ الْبَرْدَ وَالشَّرَابَ بَعْدَ مُضِيِّ تِلْكَ الْأَحْقَابِ، وَمَتَى ذَاقُوا الْبَرْدَ وَالشَّرَابَ انْقَطَعَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَذْكُرُ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَصِفُهُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ، وَأَنَّهُ مَا مِنْ نَفَادٍ، يَذْكُرُ عِقَابَ أَهْلِ النَّارِ ثُمَّ يُخْبِرُ مَعَهُ أَنَّهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ أَوْ يُطْلِقُهُ، فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ - خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ - وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: ١٠٦ - ١٠٨] وَأَمَّا الثَّانِي فَقَوْلُهُ: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ - جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ - مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ - وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ - هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ - إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ - هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ - جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ} [ص: ٤٩ - ٥٦] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص: ٦٤] وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ مَا قَالَهُ فِي النَّعِيمِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَذْكُرُ خُلُودَ أَهْلِ النَّعِيمِ فِيهِ، فَيُقَيِّدُهُ بِالتَّأْبِيدِ، وَيَذْكُرُ مَعَهُ خُلُودَ أَهْلِ الْعَذَابِ، فَلَا يُقَيِّدُهُ بِالتَّأْبِيدِ، بَلْ يُطْلِقُهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ - جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: ٦ - ٨] .
وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: ٢٣] فَإِنَّ تَأْبِيدَ الْخُلُودِ فِيهَا لَا يَسْتَلْزِمُ أَبَدِيَّتَهَا وَدَوَامَ بَقَائِهَا، بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا أَبَدًا مَا دَامَتْ كَذَلِكَ، فَالْأَبَدُ اسْتِمْرَارُهُمْ فِيهَا مَا دَامَتْ مَوْجُودَةً، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُلْ: إِنَّهَا بَاقِيَةٌ أَبَدًا، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَتَأَمَّلْهُ.
عَلَى أَنَّ التَّأْبِيدَ قَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِيمَا هُوَ مُنْقَطِعٌ، كَقَوْلِهِ عَنِ الْيَهُودِ: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: ٩٥]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute