يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وُضِعَ لِهَذَا وَلَمْ يُوضَعْ لِهَذَا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الدَّلَالَةِ، وَلِهَذَا لَمَّا تَفَطَّنَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ لِذَلِكَ قَالَ: إِنَّمَا يُعْرَفُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِنَصِّ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ، فَإِنْ أَرَادَ بِأَهْلِ اللُّغَةِ الْعَرَبَ الْعَارِبَةَ الَّذِينَ نُقِلَتْ عَنْهُمُ الْأَلْفَاظُ وَمَعَانِيهَا، فَلَمْ يَنُصَّ أَحَدٌ مِنْهُمُ الْبَتَّةَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ مَنْ نُقِلَ عَنْهُمُ الْأَلْفَاظُ وَمَعَانِيهَا مُشَافَهَةً مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ كَالْأَصْمَعِيِّ وَالْخَلِيلِ وَالْفَرَّاءِ وَأَمْثَالِهِمْ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمُ الَّذِينَ قَسَّمُوا اللَّفْظَ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ كَابْنِ جِنِّي وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَأَبِي عَلِيٍّ وَأَمْثَالِهِمْ فَهَذَا اصْطِلَاحٌ مِنْهُمْ لَا إِخْبَارٌ عَنِ الْعَرَبِ، وَلَا عَنْ نَقَلَةِ اللُّغَةِ أَنَّهُمْ نَقَلُوهُ عَنِ الْعَرَبِ، وَحِينَئِذٍ فَتَعُودُ الْمُطَالَبَةُ لَهُمْ بِالْفَرْقِ الْمُطَّرِدِ الْمُنْعَكِسِ بَيْنَ مَا سَمَّوْهُ حَقِيقَةً وَمَا سَمَّوْهُ مَجَازًا، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ تَعَالَى فِرَقَهُمْ وَنُبْطِلُهَا، يُوَضِّحُهُ:
الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ تَمْيِيزَ الْأَلْفَاظِ وَالتَّفْرِيقَ بَيْنَهَا تَابِعٌ لِتَمْيِيزِ الْمَعَانِي وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ بَعْضِهَا وَبَعْضٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَعْنَى الَّذِي سَمَّوْهُ حَقِيقِيًّا مُنْفَصِلًا مُتَمَيِّزًا مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي سَمَّوْهُ مَجَازِيًّا بِفَصْلٍ يُعْلَمُ بِهِ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي هَذَا حَقِيقَةٌ، وَاسْتِعْمَالَهُ فِي الْآخَرِ مَجَازٌ، لَمْ يَصِحَّ التَّفْرِيقُ فِي اللَّفْظِ، وَكَانَ تَسْمِيَتُهُ لِبَعْضِ الدَّلَالَةِ حَقِيقَةً وَلِبَعْضِهَا مَجَازًا تَحَكُّمًا مَحْضًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا هَلْ تَفْتَقِرُ صِحَّةُ الِاسْتِعْمَالِ الْمَجَازِيِّ إِلَى النَّقْلِ فِي كُلِّ صُورَةٍ، كَمَا تَفْتَقِرُ إِلَى ذَلِكَ الْحَقِيقَةُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، قَالُوا: وَلَيْسَ مَوْرِدُ النِّزَاعِ فِي الْأَشْخَاصِ كَزَيْدٍ وَأَسَدٍ وَبَحْرٍ وَغَيْثٍ، إِذْ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ هَذَا الْإِطْلَاقِ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ عَلَى النَّقْلِ.
فَنَقُولُ: لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْأَشْخَاصِ وَلَا فِي الْأَنْوَاعِ، أَمَّا الْأَشْخَاصُ فَظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا النَّقْلُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، إِذَا كَانَتِ الْعَلَاقَةُ مَوْجُودَةً فِي الْأَفْرَادِ، وَأَمَّا الْأَنْوَاعُ فَلَا يَكْفِي فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي كُلِّ صُورَةٍ ظُهُورُ نَوْعٍ مِنَ الْعَلَاقَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، فَإِنَّ مِنَ الْعَلَاقَاتِ عِنْدَهُمْ عَلَاقَةَ اللُّزُومِ، بِحَيْثُ يُتَجَوَّزُ عَنِ الْمَلْزُومِ إِلَى لَازِمِهِ وَعَكْسِهِ، وَعَلَاقَةَ التَّضَادِّ بِأَنْ يُتَجَوَّزَ مِنْ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ إِلَى الْآخَرِ، وَعَلَاقَةَ الْمُشَابَهَةِ وَعَلَاقَةَ الْجِوَارِ وَالْقُرْبِ، وَعَلَاقَةً تُقَدِّمُ ثُبُوتَ الصِّفَةِ لِلْحَمْلِ، وَعَلَاقَةَ كَوْنِهِ آيِلًا إِلَيْهَا، فَبَعْضُهُمْ جَعَلَ أَنْوَاعَ الْعَلَاقَاتِ أَرْبَعَةً، وَبَعْضُهُمْ أَوْصَلَهَا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ عَلَاقَةً، وَبَعْضُهُمْ أَوْصَلَهَا إِلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، وَلَوْ أَوْصَلَهَا آخَرُ إِلَى خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ لَقَبِلُوا مِنْهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute