للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فَإِنْ قُلْتَ: لَا يُعْقَلُ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ إِلَّا بِالْمَظْرُوفِ وَالظَّرْفِ، وَلَا مَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ إِلَّا بِالْمُسْتَعْلِي وَالْمُسْتَعْلَى عَلَيْهِ، وَلَا مَعْنَى التَّرْتِيبِ إِلَّا بِالْمُرَتَّبِ وَالْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ هِيَ مُتَعَلِّقَاتُ الْحُرُوفِ، قِيلَ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ (فِي) ظَرْفِيَّةٌ مُطْلَقَةٌ، وَمِنْ (عَلَى) اسْتِعْلَاءٌ مُطْلَقٌ، وَمِنْ (ثُمَّ) تَرْتِيبٌ مُطْلَقٌ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ رَجُلٍ وَمَاءٍ وَتُرَابٍ مَعَانٍ مُطْلَقَةٌ، وَهِيَ صُوَرٌ ذِهْنِيَّةٌ مُجَرَّدَةٌ لَا يُقَارِنُهَا عِلْمٌ بِوُجُودِهَا فِي الْخَارِجِ وَلَا عَدَمِهَا وَلَا وُجُودِ شَيْءٍ لَهَا وَلَا سَلْبِ شَيْءٍ عَنْهَا، بَلْ هِيَ تَخَيُّلَاتٌ سَاذَجَةٌ، وَفَهْمُ مَعَانِيهَا الْمَخْصُوصَةِ الْمُفِيدَةِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَرْتِيبِهَا.

فَإِذَا قُلْتَ: جَاءَنِي رَجُلٌ فَأَكْرَمْتُهُ، كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَعْنَى الْمُقَيَّدِ، كَدَلَالَةِ الْحَرْفِ عَلَى مَعْنَاهُ الْمُقَيَّدِ عِنْدَ تَرْكِيبِهِ، كَقَوْلِكَ: عَلِمْتُ عَلَى السَّطْحِ، وَتَقُولُ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ وَ (فِي) لِلْوِعَاءِ فَتُفِيدُ الْحُكْمَ عَلَى مَعْنَاهَا الْمُطْلَقِ، كَمَا تَقُولُ: الذَّكَرُ أَشْرَفُ مِنَ الْأُنْثَى، وَالرَّجُلُ أَنْفَعُ مِنَ الْمَرْأَةِ، فَيُفِيدُ الْحُكْمَ عَلَى الْمَعْنَى الْمُطْلَقِ.

فَهَاهُنَا ثَلَاثَةُ أُمُورٍ، وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْحُرُوفِ وَتَسْمِيَتِهَا، فَإِنَّكَ تَقُولُ (عَلَى) مُجَرَّدَةً وَتَقُولُ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ، وَتَقُولُ: زَيْدٌ عَلَى السَّطْحِ، كَمَا تَقُولُ: رَجُلٌ، وَالرَّجُلُ خَيْرٌ مِنَ الْمَرْأَةِ، فَدَعْوَى الْمَجَازِ فِي بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ تَحَكُّمٌ لَا وَجْهَ لَهُ.

وَدَلَالَةُ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُطَبَّقِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ إِنْ كَانَتْ هِيَ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ كَانَ كُلُّ مُقَيَّدٍ مَجَازًا، وَإِنْ كَانَتْ دَلَالَتُهَا عِنْدَ التَّقْيِيدِ لَمْ تُوجِبْ لَهُمَا مُفَارَقَةَ الْحَقِيقَةِ، فَكُلُّ مُقَيَّدٍ حَقِيقَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: عِنْدِي رَجُلٌ فَيَكُونُ لَهُ دَلَالَةٌ، فَإِذَا قُلْتَ: الرَّجُلُ عِنْدِي تَغَيَّرَتْ دَلَالَتُهُ وَانْتَقَلَتْ مِنَ التَّنْكِيرِ إِلَى التَّعْرِيفِ، فَإِذَا قُلْتَ: عِنْدِي رَجُلٌ عَالِمٌ تَقَيَّدَ بِقَيْدٍ مَنَعَ دَلَالَتَهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِذَا قُلْتَ: عِنْدِي رَجُلَانِ كَانَ لَهُ دَلَالَةٌ أُخْرَى، فَإِذَا قُلْتَ: رِجَالٌ تَغَيَّرَتِ الدَّلَالَةُ وَلَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَمَوْضُوعِهِ، بَلِ اخْتَلَفَتْ دَلَالَتُهُ بِحَسَبِ الْقَرَائِنِ الَّتِي تَكُونُ فِي أَوَّلِهِ تَارَةً، وَفِي أَوْسَطِهِ تَارَةً، وَفِي آخِرِهِ تَارَةً، وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِهِ وَتَكُونُ مُنْفَصِلَةً عَنْهُ تَارَةً، إِمَّا لَفْظِيَّةٌ وَإِمَّا عُرْفِيَّةٌ وَإِمَّا عَقْلِيَّةٌ، فَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ فِي مُخَاطَبَاتِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَهُوَ مِنْ ضَرُورَةِ الْفَهْمِ وَالتَّفْهِيمِ لَا يَخْتَصُّ بِلُغَةٍ دُونَ لُغَةٍ. .

فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعَانِي الْمُطْلَقَةِ وَالْمُقَيَّدَةِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، وَالْحَاجَةُ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا فِي الْعِبَارَةِ مِنْ لَوَازِمِ النُّطْقِ، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّ بَعْضَهَا هُوَ الْأَصْلُ، وَأَنَّ اللَّفْظَ وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ نُقِلَ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْمَعَانِي الْأُخَرِ فَهُوَ مُكَابِرٌ، إِذْ تَصَوُّرُ تِلْكَ الْمَعَانِي وَالتَّعْبِيرُ

<<  <   >  >>