عَنْهَا أَمْرٌ لَازِمٌ لِلنَّاطِقِ وَنُطْقِهِ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ لُزُومَ الْمُقَيَّدِ لَهُ وَحَاجَتَهُ إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ وَإِفْهَامَهُ فَوْقَ حَاجَتِهِ إِلَى الْمُطْلَقِ، فَإِنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْخِطَابِ قِيَامُ مَصَالِحِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ بِالْفَهْمِ وَالتَّفْهِيمِ وَالْمُطْلَقِ صُورَةٌ ذِهْنِيَّةٌ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْخَارِجِ، وَكَذَلِكَ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ الْمُجَرَّدُ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً وَإِنَّمَا مَحَلُّ الْإِفَادَةِ وَالِاسْتِفَادَةِ هُوَ طَلَبُ الْمَعَانِي الْمُقَيَّدَةِ وَالْأَلْفَاظِ الْمُقَيَّدَةِ، فَهِيَ الَّتِي تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إِلَى طَلَبِهَا وَالْخَبَرِ عَنْهَا، فَهَؤُلَاءِ عَكَسُوا الْأَمْرَ فَجَعَلُوا مَا لَا غِنَى لِلنَّاطِقِ عَنْهُ مَجَازًا وَمَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلَا تَشْتَدُّ حَاجَتُهُ إِلَى فَهْمِهِ وَتَفْهِيمِهِ حَقِيقَةً.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَجَازُ حَقًّا ثَابِتًا فَاللُّغَةُ كُلُّهَا مَجَازٌ، فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا مُقَيَّدَةً تُخَالِفُ دَلَالَتَهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَإِنْ كَانَتِ الْحَقِيقَةُ مَوْجُودَةً فَإِنَّ اللُّغَةَ كُلَّهَا حَقِيقَةٌ مَا دَلَّتْ عَلَى الْمُرَادِ بِتَرْكِيبِهَا، وَهَذَا شَأْنُ جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ: يُوَضِّحُهُ:
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ هَؤُلَاءِ أُوتُوا مِنْ تَقْدِيرٍ فِي الذِّهْنِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَإِنَّهُمْ أَصَابَهُمْ فِي تَجْرِيدِ الْأَلْفَاظِ عَنْ قُيُودِهَا وَتَرْكِيبِهَا ثُمَّ الْحُكْمِ عَلَيْهَا مُجَرَّدَةً بِحُكْمٍ وَعَلَيْهَا عِنْدَ تَقْيِيدِهَا بِحُكْمِ غَيْرِهِ مَا أَصَابَ الْمَنْطِقِيِّينَ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ فِي تَجْرِيدِ الْمَعَانِي وَأَخْذِهَا مُطْلَقَةً عَنْ كُلِّ قَيْدٍ، ثُمَّ حَكَمُوا عَلَيْهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ بِأَحْكَامٍ، وَرَأَوْا وُجُودَهَا الْخَارِجِيَّ مَعَ قُيُودِهَا يَسْتَلْزِمُ ضِدَّ تِلْكَ الْأَحْكَامِ، فَبَقُوا حَائِرِينَ بَيْنَ إِنْكَارِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ وَبَيْنَ إِبْطَالِ تِلْكَ الْحَقَائِقِ الَّتِي اعْتَبَرُوهَا مُجَرَّدَةً مُطْلَقَةً، فَصَارُوا تَارَةً يُثْبِتُونَ تِلْكَ الْمُجَرَّدَاتِ فِي الْخَارِجِ مُجَرَّدَةً مُطْلَقَةً وَيُسَمُّونَهَا الْمُثُلَ، أَيِ الْمِثَالَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ الْحَقَائِقَ الْخَارِجِيَّةَ، وَتَارَةً يُثْبِتُونَهَا مُقَارَنَةً لِلْمُشَخَّصَاتِ لَا تُفَارِقُهَا، وَتَارَةً يَجْعَلُونَهَا جُزْءًا مِنَ الْمُعَيَّنَاتِ، وَتَارَةً يَرْجِعُونَ إِلَى حُكْمِ الْعَقْلِ وَيَقُولُونَ: إِنَّ وُجُودَهَا ذِهْنِيٌّ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْخَارِجِ، وَلَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إِلَّا مُشَخَّصٌ مُعَيَّنٌ مُخْتَصٌّ بِأَحْكَامٍ وَلَوَازِمَ لَا تَكُونُ الْمَطْلُوبَ.
وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَرَّدُوا الْحَقَائِقَ عَنْ قُيُودِهَا وَأَخَذُوهَا مُطْلَقَةً أَخْرَجُوا عَنْ مُسَمَّيَاتِهَا وَمَاهِيَّاتِهَا جَمِيعَ الْقُيُودِ الْحَرِجَةِ فَلَمْ يَجْعَلُوهَا دَاخِلَةً فِي حَقِيقَتِهَا، فَأَثْبَتُوا إِنْسَانًا لَا طَوِيلًا وَلَا قَصِيرًا، وَلَا أَسْوَدَ وَلَا أَبْيَضَ، وَلَا فِي زَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ، وَلَا سَاكِنًا وَلَا مُتَحَرِّكًا، وَلَا هُوَ فِي الْعَالَمِ وَلَا خَارِجِهِ وَلَا لَهُ لَحْمٌ وَلَا عَظْمٌ، وَلَا عَصَبٌ وَلَا ظُفْرٌ، وَلَا لَهُ شَخْصٌ وَلَا ظِلٌّ وَلَا يُوصَفُ بِصِفَةٍ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِقَيْدٍ، ثُمَّ رَأَوُا الْإِنْسَانَ الْخَارِجِيَّ بِخِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَقَالُوا: هَذِهِ عَوَارِضُ خَارِجَةٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَجَعَلُوا حَقِيقَةَ تِلْكَ الصُّورَةِ الْخَيَالِيَّةِ الَّتِي جَرَّدُوهَا، فَهِيَ الْمَعْنَى وَالْحَقِيقَةُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اعْتَبَرُوهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute