للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَكَذَلِكَ لَفْظَةُ الْقَرْيَةِ فِي عَامَّةِ الْقُرْآنِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا السَّاكِنُ فَتَأَمَّلْهُ، وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْمَسْكَنُ خَاصَّةً، فَيَكُونُ فِي السِّيَاقِ مَا يُعِينُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: ٢٥٩] أَيْ سَاقِطَةٌ عَلَى سُقُوفِهَا، وَهَذَا التَّرْكِيبُ يُعْطِي الْمُرَادَ، فَدَعْوَى أَنَّ هَذَا حَقِيقَةُ الْقَرْيَةِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} [الطلاق: ٨] وَنَحْوَهُ مَجَازٌ، تَحَكُّمٌ بَارِدٌ لَا مَعْنَى لَهُ، وَهُوَ بِالضِّدِّ أَوْلَى، إِذْ قَدِ اطَّرَدَ اسْتِعْمَالُ الْقَرْيَةِ إِلَى السَّاكِنِ، وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ اللَّفْظَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلسَّاكِنِ بِاعْتِبَارِ الْمَسْكَنِ، ثُمَّ قَدْ يُقْصَدُ هَذَا دُونَ هَذَا، وَقَدْ يُرَادَانِ مَعًا فَلَا مَجَازَ هَاهُنَا وَلَا حَذْفَ، وَتَخَلَّصْتُ بِهَذَا مِنِ ادِّعَاءِ الْحَذْفِ فِيمَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي زُعِمَ أَنَّهَا تَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْحَذْفَ الَّذِي يَزْعُمُهُ هَؤُلَاءِ لَيْسَ بِحَذْفٍ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ قُوَّةَ الْكَلَامِ تُعْطِيهِ، وَلَوْ صَرَّحَ الْمُتَكَلِّمُ بِذِكْرِهِ كَانَ عِيًّا وَتَطْوِيلًا مُخِلًّا بِالْفَصَاحَةِ كَقَوْلِهِ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: ٧] قَالُوا: هَذَا مَجَازٌ تَقْدِيرُهُ: مَا أَفَاءَ اللَّهُ مِنْ أَمْوَالِ الْقُرَى، وَهَذَا غَلَطٌ وَلَيْسَ بِمَجَازٍ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَالْمَعْنَى مَفْهُومٌ بِدُونِ هَذَا التَّقْدِيرِ، فَالْقَائِلُ اتَّصَلَ إِلَيَّ مِنْ فُلَانٍ أَلْفٌ، يَصِحُّ كَلَامُهُ لَفْظًا وَمَعْنًى بِدُونِ تَقْدِيرٍ، فَإِنَّ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ فِي الْغَايَةِ، فَابْتِدَاءُ الْحُصُولِ مِنَ الْمَجْرُورِ بِمِنْ، وَكَذَلِكَ فِي الْآيَةِ.

يُوَضِّحُهُ أَنَّ التَّقْدِيرَ إِنَّمَا يَتَعَيَّنُ حَيْثُ لَا يَصِحُّ الْكَلَامُ بِدُونِهِ، فَأَمَّا إِذَا اسْتَقَامَ الْكَلَامُ بِدُونِ التَّقْدِيرِ مِنْ غَيْرِ اسْتِكْرَاهٍ وَلَا إِخْلَالٍ بِالْفَصَاحَةِ كَانَ التَّقْدِيرُ غَيْرَ مُفِيدٍ وَلَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَالْحَذْفُ الْمُتَعَيَّنُ تَقْدِيرُهُ كَقَوْلِهِ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور: ١٠] وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: ٣١] وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا نَحْوُ قَوْلِهِ: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: ٦٣] فَلَيْسَ هُنَاكَ تَقْدِيرٌ أَصْلًا إِذِ الْكَلَامُ مُسْتَغْنٍ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى تَقْدِيرٍ، فَإِنَّ الَّذِي يَدَّعِي تَقْدِيرَهُ قَدْ دَلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ بِاللُّزُومِ، فَكَأَنَّهُ مَذْكُورٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ بِلَازِمِهِ كَمَا يَدُلُّ بِحُرُوفِهِ، وَلَا

<<  <   >  >>