للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يُقَالُ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلَالَةَ الْتِزَامٍ إِنَّهُ مَحْذُوفٌ، فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ مَنْشَأُ غَلَطِ هَؤُلَاءِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَدَّعُونَ فِيهِ الْحَذْفَ.

نَعَمْ هَاهُنَا قِسْمٌ آخَرُ مِمَّا يُدَّعَى فِيهِ حَذْفُ الْمُضَافِ وَتَقْدِيرُهُ كَقَوْلِهِ: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: ٢٢] أَيْ أَمْرُهُ {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: ٢١٠] أَيْ أَمْرُهُ، وَقَوْلِهِ: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ} [النحل: ٢٦] أَيْ أَمْرُهُ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ» "، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، فَهَذَا قَدِ ادَّعَى تَقْدِيرَ الْمُضَافِ فِيهِ، وَلَكِنْ دَعْوَةٌ مُجَرَّدَةٌ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى قَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ التَّعْطِيلِ، وَهِيَ إِنْكَارُ أَفْعَالِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ الْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ فَاعِلٌ بِلَا فِعْلٍ.

وَأَمَّا مَنْ أَثْبَتَ أَنَّ الرَّبَّ فَاعِلٌ حَقِيقَةً، وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا بِلَا فِعْلٍ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ عَيْنَ الْمَفْعُولِ، بَلْ هِيَ حَقَائِقُ مُعْتَبَرَةٌ فَاعِلٌ وَفِعْلٌ وَمَفْعُولٌ، هَذَا هُوَ الْمَفْعُولُ فِي فِطَرِ بَنِي آدَمَ، فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَلَا يُجَوِّزُهُ، فَإِنَّ حَذْفَهُ يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّلْبِيسِ وَيَرْفَعُ الْوُثُوقَ بِكَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ، وَيُوقِعُ التَّحْرِيفَ، فَإِنَّهُ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ أَنْ يُقَدِّرَ مُضَافًا يُخْرِجُ بِهِ الْكَلَامَ عَنْ مُقْتَضَاهُ إِلَّا فَعَلَ، وَارْتَفَعَ الْوُثُوقُ وَالْفَهْمُ وَالتَّفْهِيمُ.

فَيُقَدِّرُ الْمُلْحِدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: ٧] مُضَافًا تَقْدِيرُهُ أَرْوَاحُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُحْيِي الْمَوْتَى} [الحج: ٦] أَيْ أَرْوَاحَ الْمَوْتَى، وَقَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: ٩٧] وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يُقَدَّرُ فِيهِ مُضَافٌ يُخْرِجُ الْكَلَامَ عَنْ ظَاهِرِهِ.

فَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَوْضِعٍ يَقْبَلُ تَقْدِيرَ الْمُضَافِ، وَلَا كُلُّ مَا قَبِلَهُ جَازَ تَقْدِيرُهُ حَتَّى يَكُونَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّقْدِيرِ دَلَالَةً ظَاهِرَةً، وَلَا تَوَقُّعَ اللَّبْسِ بِحَيْثُ لَا يَجِدُ السَّامِعُ بُدًّا مِنَ التَّقْدِيرِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: سَافَرْنَا فِي الثُّرَيَّا أَيْ فِي نَوْئِهَا، وَجَلَسْنَا فِي الشَّمْسِ، أَيْ فِي حَرِّهَا، وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالسِّيَاقِ، فَكَأَنَّهُ مَذْكُورٌ لَمْ يَفُتْ إِلَّا التَّلَفُّظُ بِهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ إِنَّهُ مَجَازٌ، فَإِنَّ اللَّفْظَ بِمَجْمُوعِهِ دَالٌّ عَلَى الْمُرَادِ، وَالْمُتَكَلِّمُ قَدْ يَخْتَصِرُ لِيَحْفَظَ كَلَامَهُ، وَقَدْ يَبْسُطُ وَيُطِيلُ لِيَزِيدَ فِي الْإِيضَاحِ وَالْبَيَانِ، وَالْإِيجَارِ وَالِاخْتِصَارِ، وَالْإِسْهَابِ وَالْإِطْنَابِ طَرِيقَانِ لِلْمُتَكَلِّمِ، يَسْلُكُ هَذِهِ مَرَّةً وَهَذِهِ

<<  <   >  >>