مَرَّةً، وَهَذَا فِي كُلِّ لُغَةٍ، فَإِذَا اخْتَصَرَ وَدَلَّ عَلَى الْمُرَادِ لَا يُقَالُ تَكَلَّمَ بِالْمَجَازِ، يُوَضِّحُهُ:
الْوَجْهُ الثَّانِيَ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ أَكْثَرَ مَا يُدَّعَى فِيهِ الْحَذْفُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَيْهِ وَلَا عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ دَلِيلٌ سِوَى الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةِ، فَمِنْ أَشْهَرِ مَا يُدَّعَى فِيهِ الْحَذْفُ التَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ وَالْمُضَافُ إِلَى الْأَعْيَانِ نَحْوُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: ٣] ، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: ٢٣] ، {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: ١] وَنَظَائِرُهُ، قَالُوا: لِأَنَّ التَّحْرِيمَ وَالْإِبَاحَةَ وَالْكَرَاهَةَ وَالْإِيجَابَ طَلَبٌ لَا يُتَصَوَّرُ تَعَلُّقُهُ بِالْأَعْيَانِ لِاسْتِحَالَةِ إِيجَادِ الْمُكَلَّفِ لَهُمَا، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ الْوَاقِعَةِ فِيهَا، فَهِيَ الَّتِي تُوصَفُ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَالْكَرَاهَةِ.
وَأَمَّا الْأَعْيَانُ فَلَا تُوصَفُ بِذَلِكَ إِلَّا مَجَازًا، فَإِذَا قَالَ: حُرِّمَتِ الْمَيْتَةُ كَانَ التَّقْدِيرُ أَكْلَهَا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «إِنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا» " وَحُرِّمَتِ الْخَمْرُ، أَيْ شُرْبُهَا، وَالْحَرِيرُ أَيْ لُبْسُهُ، وَأُمَّهَاتُكُمْ، أَيْ نِكَاحُهُنَّ، وَلَمَّا كَانَ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ، قَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يُمْكِنُ إِضْمَارُ كُلِّ فِعْلٍ، إِذِ الْعُمُومُ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ، وَدَلَالَةُ الْحَذْفِ وَالْإِضْمَارِ لَا عُمُومَ لَهَا، فَيَكُونُ مُجْمَلًا.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلِ الْمُقَدَّرُ كَالْمَلْفُوظِ، فَتَارَةً يَكُونُ عَامًّا وَتَارَةً يَكُونُ خَاصًّا، وَهَذَا بِحَسَبِ الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ، فَتَحْرِيمُ مَا يُشْرَبُ تَحْرِيمُ شُرْبِهِ، وَمَا يُؤْكَلُ تَحْرِيمُ أَكْلِهِ، وَمَا يُلْبَسُ تَحْرِيمُ لُبْسِهِ، وَمَا يُرْكَبُ تَحْرِيمُ رُكُوبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُوصَفَ الْأَعْيَانُ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هَذَا ثَابِتٌ مِنْ جِهَةِ اللُّزُومِ وَإِلَّا فَالتَّحْرِيمُ وَالْإِبَاحَةُ وَاقِعٌ عَلَى نَفْسِ الْأَعْيَانِ وَيَصِحُّ وَصْفُ الْأَعْيَانِ بِذَلِكَ حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ الْأَلْفَاظِ الْمَطْلُوبِ مِنْهَا، قَالُوا: وَهَذَا كَمَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا مَحْبُوبَةٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا الْحُبُّ وَالْكَرَاهَةُ وَالْبُغْضُ مُتَعَلِّقٌ بِأَفْعَالِنَا فِيهَا.
قِيلَ: هَذَا مُكَابَرَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّا نَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا وِجْدَانًا ضَرُورِيًّا مَحَبَّةَ بَعْضِ الْأَعْيَانِ وَبُغْضَ بَعْضِهَا، وَيَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ صِحَّةَ قَوْلِ الْقَائِلِ: هَذَا الشَّيْءُ مَحْبُوبٌ، وَهَذَا مَكْرُوهٌ، وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ، فَأَيُّ عَقْلٍ وَشَرْعٍ وَلُغَةٍ يَمْنَعُ مِنِ اتِّصَافِ الْأَعْيَانِ أَنْفُسِهَا بِكَوْنِهَا مُبَاحَةً أَوْ مُحَرَّمَةً كَمَا تُوصَفُ بِكَوْنِهَا مَحْبُوبَةً أَوْ مَكْرُوهَةً.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute