للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَدَّرَهَا فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ خَلْقِ الْقَلَمِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْعَرْشَ سَابِقٌ عَلَى الْقَلَمِ، وَالْقَلَمَ سَابِقٌ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَادَّعَى هَذَا الْجَهْمِيُّ أَنَّ الْعَرْشَ مَخْلُوقٌ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَمْ يَكْفِهِ هَذَا الْكَذِبُ حَتَّى ادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ، لِيَتَأَتَّى لَهُ إِخْرَاجُ الِاسْتِوَاءِ عَنْ حَقِيقَتِهِ.

الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ وَالِاسْتِوَاءَ لَفْظَانِ مُتَغَايِرَانِ، وَمَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ فَحَمْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إِنِ ادُّعِيَ أَنَّهُ بِطَرِيقِ الْوَضْعِ فَكَذِبٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَضَعْ لَفْظَ الِاسْتِوَاءِ لِلِاسْتِيلَاءِ الْبَتَّةَ، وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الِاسْتِعْمَالِ فِي لُغَتِهِمْ فَكَذِبٌ أَيْضًا، فَهَذَا نَظْمُهُمْ وَنَثْرُهُمْ شَاهِدٌ بِخِلَافِ مَا قَالُوهُ، فَتَتَبَّعْ لَفْظَ اسْتَوَى وَمَوَارِدَهَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ هَلْ تَجِدُهَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ؟ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَيْتُ الْمَصْنُوعَ الْمُخْتَلَقَ، وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ الْقِيَاسِيِّ فَهُوَ إِنْشَاءٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ بِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ كَلَامَ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ فَضْلًا عَنْ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُوَضِّحُهُ:

الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ الْقَائِلَ بِأَنَّ مَعْنَى اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى شَاهِدٌ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ أَرَادَ بِكَلَامِهِ هَذَا الْمَعْنَى، وَهَذِهِ شَهَادَةٌ لَا عِلْمَ لِقَائِلِهَا بِمَضْمُونِهَا، بَلْ هِيَ قَوْلٌ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، فَلَوْ كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لَهَا فِي اللُّغَةِ وَهَيْهَاتَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى بِخِلَافِ مَنْ أَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ أَرَادَ الْحَقِيقَةَ وَالظَّاهِرَ، فَإِنَّهُ شَاهِدٌ بِمَا أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَادَتَهُ مِنْ خِطَابِ خَلْقِهِ بِحَقَائِقِ لُغَاتِهِمْ وَظَوَاهِرِهَا كَمَا قَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: ٤] فَإِذَا كَانَ الِاسْتِوَاءُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَعْلُومًا كَانَ هُوَ الْمُرَادَ لِكَوْنِ الْخِطَابِ بِلِسَانِهِمْ، وَهُوَ الْمُقْتَضِي لِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا خَاطَبَهُمْ بِغَيْرِ مَا يَعْرِفُونَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ خِطَابِ الْعَرَبِيِّ بِالْعَجَمِيَّةِ.

الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عُمَرَ الطَّلَمَنْكِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ شَيْخُ أَبِي عُمَرَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ الَّذِي سَمَّاهُ (الْوُصُولَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ) فَذَكَرَ فِيهِ مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِهِمْ، وَأَقْوَالِ مَالِكٍ وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ مَا إِذَا وَقَفَ عَلَيْهِ الْوَاقِفُ، عَلِمَ حَقِيقَةَ مَذْهَبِ السَّلَفِ، وَقَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ: أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ.

<<  <   >  >>