للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ (التَّمْهِيدِ) فِي شَرْحِ حَدِيثِ النُّزُولِ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ كَمَا قَالَتِ الْجَمَاعَةُ، وَقَرَّرَ ذَلِكَ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِيمَانِ بِهَا، وَحَمْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَا يُكَيِّفُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَجِدُونَ فِيهِ صِفَةً مَخْصُوصَةً، وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ الْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ، فَكُلُّهُمْ يُنْكِرُهَا وَلَا يَحْمِلُ شَيْئًا مِنْهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِهَا مُشَبِّهٌ، وَهُمْ عِنْدَ مَنْ أَقَرَّ بِهَا نَافُونَ لِلْمَعْبُودِ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْمَشْهُورِ فِي قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: ٥] هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِلْفُقَهَاءِ فِيهَا كَلَامٌ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ الْمُتَكَلِّمِينَ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الْأَوَّلُ لَا يَقُولُونَ بِنَفْيِ الْجِهَةِ وَلَا يَنْطِقُونَ بِذَلِكَ، بَلْ نَطَقُوا هُمْ وَالْكَافَّةُ بِإِثْبَاتِهَا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا نَطَقَ فِي كِتَابِهِ، وَأَخْبَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا جَهِلُوا كَيْفِيَّةَ الِاسْتِوَاءِ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ.

الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ لَمَّا قَالُوا إِنَّ الِاسْتِوَاءَ مَجَازٌ صَرَّحَ أَهْلُ السُّنَّةِ بِأَنَّهُ مُسْتَوٍ بِذَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَأَكْثَرُ مَنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَئِمَّةُ الْمَالِكِيَّةِ، فَصَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كُتُبِهِ أَشْهَرُهَا الرِّسَالَةُ، وَفِي كِتَابِ جَامِعِ النَّوَادِرِ، وَفِي كِتَابِ الْآدَابِ، فَمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى ذَلِكَ فَهَذِهِ كُتُبُهُ.

وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَقَالَ: إِنَّهُ اسْتَوَى بِالذَّاتِ عَلَى الْعَرْشِ، وَصَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَكَانَ مَالِكِيًّا، حَكَاهُ عَنْهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ أَيْضًا، وَصَرَّحَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي كِتَابِ شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى، فَقَالَ: ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْحَضْرَمِيُّ مِنْ قَوْلِ الطَّبَرِيِّ، يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ جَرِيرٍ، وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ شُيُوخِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كِتَابِ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ نَصًّا، وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بِذَاتِهِ، وَأَطْلَقُوا فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ فَوْقَ خَلْقِهِ، قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ فِي تَمْهِيدِ الْأَوَائِلِ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَالطَّلَمَنْكِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَنْدَلُسِيِّينَ، وَقَوْلُ الْخَطَّابِيِّ فِي شِعَارِ الدِّينِ.

<<  <   >  >>