{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} [الإسراء: ٥] وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ نَفْسَهُ لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ مُلُوكِيَّةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ.
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَقِيَ أَعْرَابِيًّا وَمَعَهُ نَاقَةٌ فَقَالَ: لِمَنْ هَذِهِ؟ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَنَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَمْ أَنْتُمْ؟ فَقَالَ: أَنَا وَاحِدٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَكَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: نَحْنُ وَخَلَقْنَا وَقَضَيْنَا، إِنَّمَا يَعْنِي نَفْسَهُ، وَالْمُبْهَمُ يُرَدُّ إِلَى الْمُحْكَمِ فَكُلُّ كَلِمَةٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْ لَفْظِ جَمْعٍ قَبْلَهَا مُحْكَمٌ مِنَ التَّوْحِيدِ تُرَدُّ إِلَيْهِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ} [الإسراء: ٤] يُرَدُّ إِلَى قَوْلِهِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: ٢٣] وَقَوْلُهُ: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النبأ: ٨] يُرَدُّ إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ} [يس: ٨٢] وَقَوْلُهُ: {لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} [هود: ١٠١] كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: ٧١] يُرَدُّ إِلَى قَوْلِهِ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: ٧٥] فَلَمَّا افْتَتَحَ الْكَلَامَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَقَالَ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ} [يس: ٧١] قَالَ: {أَيْدِينَا} [يس: ٧١] وَلَمَّا افْتَتَحَ بِقَوْلِهِ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: ٧٥] خَتَمَ الْكَلَامَ عَلَى مَا افْتَتَحَهُ بِهِ، فَهَذَا بَيَانٌ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ.
وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ قَسَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَقْسَمَ أَنْ يَقُولَ: «لَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ» وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِهِ النِّعْمَةُ وَهَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يُصَدِّقُ كِتَابَ اللَّهِ» . انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَلَوْ ذَكَرْنَا كَلَامَ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ لَطَالَ جِدًّا، وَالْأَشْعَرِيُّ فِي كُتُبِهِ يُصَرِّحُ بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ فِي كُتُبِهِ كُلِّهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا لَا يُنْكِرُ لَفْظَهَا وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا حَقَائِقَهَا وَمَعَانِيَهَا الظَّاهِرَةَ، وَكَلَامُ الْأَشْعَرِيِّ مَوْجُودٌ فِي الْإِبَانَةِ وَالْمُوجَزِ وَالْمَقَالَاتِ وَمَوْجُودٌ فِي تَصَانِيفِ أَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ وَأَجَلُّهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الطَّيِّبِ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ وَالتَّمْهِيدِ وَغَيْرِهِمَا وَذَكَرَهُ ابْنُ فُورَكٍ فِيمَا جَمَعَهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كُلَّابٍ وَكَلَامِ الْأَشْعَرِيِّ، وَذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالِاعْتِقَادِ، وَذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ فِي كِتَابِ الشِّكَايَةِ لَهُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ تَبْيِينِ كَذِبِ الْمُفْتَرِي، حَتَّى ابْنُ الْخَطِيبِ وَالسَّيْفُ الْآمِدِيُّ حَكَوْا ذَلِكَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَأَنَّهُ أَثْبَتَ الْيَدَيْنِ صِفَةً لِلَّهِ، وَلَكِنْ غَلِطُوا حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ لَهُ قَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ، وَهَذِهِ كُتُبُهُ كُلُّهَا لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الْإِثْبَاتُ، فَهُوَ الَّذِي يَحْكِيهِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَيَنْصُرُهُ، وَيَحْكِي خِلَافَهُ عَنِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ.
نَعَمْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يَقُولُ بِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ وَصَرَّحَ بِخِلَافِهِمْ وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute