للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ يَدَيْهِ وَيَدِهِ فَقَدْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ فِي صَدْرِ هَذَا الْكَلَامِ، وَأَمَّا النِّعْمَةُ الَّتِي هِيَ غَيْرُ الْيَدِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [البقرة: ٢٣١] وَقَوْلُهُ: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: ٥٣] وَقَوْلُهُ: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: ٣] وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: ٣٧] فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى النِّعَمَ بِاسْمِ النِّعْمَةِ وَلَمْ يُسَمِّهَا بِغَيْرِ أَسْمَائِهَا، وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ وَذَكَرَ تَعَالَى أَيْدِي الْمَخْلُوقِينَ فَسَمَّاهَا بِالْأَيْدِي، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: ٢٩] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: ٣٨] وَقَالَ: {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} [الأنعام: ٩٣] فَهَذِهِ أَيْدٍ لَا نِعْمَةٌ وَذَكَرَ نِعْمَتَهُ عَلَى زَيْدٍ وَنِعْمَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَسَمَّاهَا نِعْمَةً وَلَمْ يُسَمِّهَا يَدًا، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ يَدَيْهِ أَنَّهُمَا يَدَانِ لَا ثَلَاثَةَ، وَجَعَلَ الْيَاءَ اسْتِقْصَاءً لِلْعَدَدِ حِينَ قَالَ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: ٧٥] فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا يَدَا الذَّاتِ، لَا يَتَعَارَفُ الْعَرَبُ فِي لُغَاتِهَا وَلَا أَشْعَارِهَا إِلَّا أَنَّ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ يَدَا الذَّاتِ لِاسْتِقْصَاءِ الْعَدَدِ بِالْيَاءِ، وَأَمَّا نِعَمُ اللَّهِ فَهِيَ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ أَوْ تُعَدَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: ٣٤] .

وَاعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ قَائِلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ جَاهِلٌ بِلُغَةِ الْقُرْآنِ وَبِلُغَةِ الْعَرَبِ وَمَعَانِيهَا وَكَلَامِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ إِذَا افْتَتَحَ الْخَبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ خَتَمَ الْكَلَامَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَإِذَا افْتَتَحَ الْكَلَامَ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ خَتَمَ الْكَلَامَ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا يَعْنِي الْخَبَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ جَمْعًا، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ لَفْظِ الْوَاحِدِ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ} [الإسراء: ٢٣] فَافْتَتَحَ الْخَبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ، وَبِمِثْلِهِ خَتَمَ الْكَلَامَ فَقَالَ: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: ٢٣] وَقَالَ: {وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: ٢٤] وَقَالَ: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} [الإسراء: ٥٤] أَمَّا مَا افْتَتَحَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَهُوَ قَوْلُهُ: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: ٤] فَافْتَتَحَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ ثُمَّ خَتَمَهُ بِمِثْلِ مَا افْتَتَحَهُ بِهِ فَقَالَ:

<<  <   >  >>