الْجَهْمِيَّةِ الْمُعَطِّلَةِ وَتَبِعَهُمْ عَلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ الْمُسْتَأْخِرِينَ مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى الْأَشْعَرِيِّ، وَالْأَشْعَرِيُّ وَقُدَمَاءُ أَصْحَابِهِ يَرُدُّونَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَيُبَدِّعُونَهُمْ وَيُثْبِتُونَ الْيَدَ حَقِيقَةً، قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْمَالِكِيُّ الْكِنَانِيُّ جَلِيسُ الشَّافِعِيِّ وَالْخِصِّيصُ بِهِ مَاتَ قَبْلَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي كِتَابِهِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ وَالزَّنَادِقَةِ، قَالَ: يُقَالُ لِلْجَهْمِيِّ: أَتَقُولُ إِنَّ لِلَّهِ وَجْهًا وَلَهُ نَفْسٌ وَلَهُ يَدٌ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، وَلَكِنْ مَعْنَى وَجْهِ اللَّهِ هُوَ اللَّهُ، وَمَعْنَى نَفْسِهِ عَيْنُهُ، وَمَعْنَى يَدِهِ نِعْمَتُهُ، قَالَ: وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ لَهُ (فَذَكَرَ كَلَامًا يَتَعَلَّقُ بِالْوَجْهِ وَالنَّفْسِ) ، ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا قَوْلُهُ فِي الْيَدِ: إِنَّهَا يَدُ نِعْمَةٍ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: لَكَ عِنْدِي يَدٌ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: ٢٦] وَقَالَ: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس: ٨٣] وَقَالَ: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: ١] وَقَالَ: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: ١٠] وَقَالَ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: ٦٤] قَالَ: فَزَعَمَ الْجَهْمِيُّ أَنَّ يَدَ اللَّهِ نِعْمَتُهُ، فَبَدَّلَ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُ فَأَرَادَ الْجَهْمِيُّ أَنْ يُبَدِّلَ كَلَامَ اللَّهِ، إِذْ أَخْبَرَ أَنَّ لَهُ يَدًا بِهَا مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ فَبَدَّلَ مَكَانَ الْيَدِ نِعْمَةً، وَقَالَ: الْعَرَبُ تُسَمِّي الْيَدَ نِعْمَةً، قُلْنَا لَهُ: الْعَرَبُ تُسَمِّي النِّعْمَةَ يَدًا، وَتُسَمِّي يَدَ الْإِنْسَانِ يَدًا، فَإِذَا أَرَادَتْ يَدَ الذَّاتِ جَعَلَتْ عَلَى قَوْلِهَا عَلَمًا وَدَلِيلًا يَعْقِلُ بِهِ السَّامِعُ أَنَّهَا أَرَادَتِ الذَّاتَ، وَإِذَا أَرَادَتْ يَدَ النِّعْمَةِ جَعَلَتْ عَلَى قَوْلِهَا دَلِيلًا يَعْقِلُ السَّامِعُ كَلَامَهَا أَنَّهَا تُرِيدُ بِالْيَدِ النِّعْمَةَ، وَلَا تَجْعَلُ كَلَامَهَا مُشْتَبِهًا عَلَى سَامِعِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
نَاوَلْتُ زَيْدًا بِيَدَيَّ عَطِيَّةً
فَدَلَّ بِهَذَا الْقَوْلِ عَلَى يَدِ الذَّاتِ بِالْمُنَاوَلَةِ وَالْيَاءِ حِينَ قَالَ: بِيَدَيَّ، فَجَعَلَ الْيَاءَ اسْتِقْصَاءً لِلْعَدَدِ حِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُ يَدَيْنِ، وَقَالَ الْآخَرُ حِينَ أَرَادَ يَدَ النِّعْمَةِ:
اشْكُرْ يَدَيْنِ لَنَا عَلَيْكَ وَأَنْعُمًا ... شُكْرًا يَكُونُ مُكَافِئًا لِلْمُنْعِمِ
فَدَلَّ عَلَى يَدِ النِّعْمَةِ بِقَوْلِهِ: لَنَا عَلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ: وَأَنْعُمًا، ثُمَّ قَالَ: يَدَيْنِ، فَجَعَلَ النُّونَ مَكَانَ الْيَاءِ لَمْ يَسْتَقْصِ بِهِمَا الْعَدَدَ، فَهَذَا قَوْلُ الْعَرَبِ وَمَذْهَبُهَا فِي لُغَاتِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُسَمِّ فِي كِتَابِهِ يَدًا بِنِعْمَةٍ وَلَمْ يُسَمِّ نِعْمَةً يَدًا، سَمَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْيَدَ يَدًا وَالنِّعْمَةَ نِعْمَةً فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute