للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لَا يَصِحُّ دُخُولُ النَّسْخِ فِيهَا، لِأَنَّهَا خَبَرٌ عَنْ مُلْكِهِ لِلْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَأَنَّهُ أَيْنَ مَا وَلَّى الرَّجُلُ وَجْهَهُ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، وَعَنْ سَعَتِهِ وَعِلْمِهِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ دُخُولُ النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ فِي ذَلِكَ.

وَأَيْضًا هَذِهِ الْآيَةُ ذُكِرَتْ مَعَ مَا بَعْدَهَا لِبَيَانِ عَظَمَةِ الرَّبِّ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ عِدْلًا مِنْ خَلْقِهِ أَشْرَكَهُ مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ بَعْدَهَا الرَّدَّ عَلَى مَنْ جَعَلَ لَهُ وَلَدًا فَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} [البقرة: ١١٦] إِلَى قَوْلِهِ: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: ١١٧] فَهَذَا السِّيَاقُ لَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِلْقِبْلَةِ، وَلَا سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِهَا، وَإِنَّمَا سِيقَ لِذِكْرِ عَظَمَةِ الرَّبِّ وَبَيَانِ سَعَةِ عِلْمِهِ وَمُلْكِهِ وَحِلْمِهِ، وَالْوَاسِعُ مِنْ أَسْمَائِهِ، فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ لَهُ شَرِيكًا بِسَنَنِهِ وَتَمْنَعُونَ بُيُوتَهُ وَمَسَاجِدَهُ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَتَسْعَوْنَ فِي خَرَابِهَا، فَهَذَا لِلْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ النَّصَارَى مِنَ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ وَوُسِّطَ بَيْنَ كُفْرِ هَؤُلَاءِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: ١١٥] فَالْمَقَامُ مَقَامُ تَقْرِيرٍ لِأُصُولِ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، لَا بَيَانِ فَرْعٍ مُعَيَّنٍ جُزْئِيٍّ.

يُوَضِّحُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قِبْلَتَهُ الَّتِي شَرَعَهَا عَيَّنَهَا دُونَ سَائِرِ الْجِهَاتِ بِأَنَّهَا شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَكَّدَ ذِكْرُهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ تَعْيِينَهَا لَهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْجِهَاتِ بِأَنَّهَا الْقِبْلَةُ الَّتِي رَضِيَهَا، وَشَرَعَهَا وَأَحَبَّهَا لِعِبَادِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهَا كُلُّ جِهَةٍ بَلْ أَخْبَرَ أَنَّهَا قِبْلَةٌ يَرْضَاهَا رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ اسْتِقْبَالَهَا مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: ١٤٤] أَيْ ذَلِكَ الِاسْتِقْبَالُ، وَأَكَّدَ أَمْرَ هَذِهِ الْقِبْلَةٍ تَأْكِيدًا أَزَالَ بِهِ اسْتِقْبَالَ غَيْرِهَا وَأَنْ تَكُونَ قِبْلَةً شَرَعَهَا.

الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنِ الْجِهَاتِ الَّتِي تَسْتَقْبِلُهَا الْأُمَمُ مُنَكَّرَةً مُطْلَقَةً غَيْرَ مُضَافَةٍ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الْمُسْتَقْبِلَ لَهَا هُوَ مُوَلِّيهَا وَجْهَهُ لَا أَنَّ اللَّهَ شَرَعَهَا لَهُ وَأَمَرَهُ بِهَا، ثُمَّ أَمَرَ أَهْلَ قِبْلَتِهِ الْمُبَادَرَةَ وَالْمُسَابَقَةَ إِلَى الْخَيْرِ الَّذِي ادَّخَرَهُ لَهُمْ وَخَصَّهُمْ بِهِ وَمِنْ جُمْلَتِهِ هَذِهِ الْقِبْلَةُ الَّتِي خَصَّهُمْ دُونَ سَائِرِ الْأُمَمِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: ١٤٨] إِلَى قَوْلِهِ: {قَدِيرٌ} [البقرة: ١٤٨] .

فَتَأَمَّلْ هَذَا السِّيَاقَ فِي ذِكْرِ الْجِهَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي تُوَلِّيهَا الْأُمَمُ وُجُوهَهُمْ، وَنَزِّلْ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: ١١٥] إِلَى قَوْلِهِ: {وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: ١١٥] وَانْظُرْ هَلْ يُلَائِمُ

<<  <   >  >>