فَإِنْكَارُ كَوْنِهِ نُورًا هُوَ قَوْلُ الْمُبْتَدِعَةِ، قَالَ ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ مَقَالَاتِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَذَكَرَ اتِّفَاقَهُمَا إِلَّا فِيمَا نَدَرَ مِنَ الْأُمُورِ اللَّفْظِيَّةِ إِلَى أَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِهِ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نُورٌ لَا كَأَنْوَارٍ حَقِيقَةً لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ هَادٍ، وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ لِذَلِكَ تَكَلَّمَ فِيهِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ إِذْ تَأَوَّلُوا ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ هَادٍ، فَقَالَ: إِنْ سَأَلَ سَائِلٌ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنُورٌ هُوَ؟ قِيلَ لَهُ: كَلَامُكَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنَّهُ نُورٌ يَتَجَزَّأُ تَجُوزُ عَلَيْهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فَلَا، وَهَذِهِ صِفَةُ النُّورِ الْمَخْلُوقِ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مَعْنَى مَا قَالَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: ٣٥] فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى مَا قَالَ.
فَإِنْ قَالَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ نُورٌ؟ قِيلَ لَهُ: قَدْ أَخْبَرْنَاكَ مَا مَعْنَى النُّورِ الْمَخْلُوقِ وَمَا مَعْنَى النُّورِ الْخَالِقِ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَمَنْ تَعَدَّى أَنْ يَقُولَ اللَّهُ نُورٌ فَقَدْ تَعَدَّى إِلَى غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ يُسَمِّي نَفْسَهُ لِعِبَادِهِ بِمَا لَيْسَ هُوَ بِهِ، فَإِنْ قَالَ: لَا أَعْرِفُ النُّورَ إِلَّا هَذَا النُّورَ الْمُضِيءَ الْمُتَجَزِّئَ، قِيلَ لَهُ: فَإِنْ كَانَ لَا يَكُونُ نُورٌ إِلَّا كَذَلِكَ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ شَيْئًا إِلَّا وَحُكْمُهُ حُكْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: فَإِذَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنِّي نُورٌ، قُلْتُ أَنَا: هُوَ نُورٌ عَلَى مَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقُلْتَ أَنْتَ: لَيْسَ هُوَ نُورٌ، فَمَنِ الْمُثْبِتُ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَنَا أَوْ أَنْتَ؟ وَكَيْفَ يَتَبَيَّنُ الْحَقُّ فِيهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَالدَّافِعُ لِمَا قَالَ اللَّهُ كَافِرٌ بِاللَّهِ، وَإِنْ لَزِمَنَا أَنْ لَا نَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ نُورٌ لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْخَلْقِ؛ لَزِمَنَا أَنْ لَا نَقُولَ إِنَّ اللَّهَ حَيٌّ سَمِيعٌ بَصِيرٌ مَوْجُودٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْخَلْقِ، وَمَعْنَانَا فِي هَذَا الْبَابِ خِلَافُ مَعْنَاكُمْ ; لِأَنَّ مَعْنَاكُمْ فِي ذَلِكَ التَّعْطِيلُ، وَمَعْنَانَا فِي قَوْلِنَا: اللَّهُ نُورٌ نُثْبِتُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ فِي كِتَابِهِ بِمَا يُسَمَّى بِهِ عِنْدَنَا، فَنَحْنُ مُتَّبِعُونَ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ فِي كِتَابِهِ، فَإِنْ جَازَ لَكُمْ أَنْ تَقُولُوا شَيْئًا لَا كَالْأَشْيَاءِ جَازَ لَنَا أَنْ نَقُولَ نُورٌ لَا كَالْأَنْوَارِ، وَأَنْتُمْ ظَلَمَةٌ فِيمَا سَأَلْتُمْ، جَحَدَةٌ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ، وَنَحْنُ وَأَنْتُمْ مُتَّفِقُونَ إِنْ أَقْرَرْتُمْ بِالْكِتَابِ أَنَّ لِلَّهِ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمُخْتَلِفُونَ فِي أَنْ نَقُولَ: نُورٌ فَقُلْنَا نَحْنُ: نُورٌ، وَقُلْتُمْ أَنْتُمْ: لَا نَقُولُ نُورٌ، فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّ مَعْنَى نُورٍ مَعْنَى هَادٍ قُلْنَا لَكُمْ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ نُورٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ هَادٍ، فَإِنْ قُلْتُمْ: لَا، كَذَّبْتُمُ الْقِيَاسَ وَاللُّغَةَ، وَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ، قُلْنَا لَكُمْ: سَوَّيْتُمْ بَيْنَ النُّورِ وَالْهَادِي الَّذِي هُوَ غَيْرُ اللَّهِ وَبَيْنَهُ إِنْ كَانَ هُوَ النُّورُ الْهَادِي وَمَعْنَى هَذَا نُورٌ، مَعْنَى كَوْنِ هَذَا فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي مَعْنَيْهِمَا وَأَسْمَائِهِمَا فَدَخَلْتُمْ فِيمَا عِبْتُمْ عَلَى مُخَالِفِيكُمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute