فَإِنْ قُلْتُمْ: فَالنُّورُ لَا يَكُونُ إِلَّا جَسَدًا مُجَسَّدًا أَوْ ضِيَاءً سَاطِعًا، قُلْنَا: وَلَا يَكُونُ عَالِمٌ بَصِيرٌ إِلَّا لَحْمًا وَدَمًا مُتَجَزِّئًا مُتَبَعِّضًا، فَإِنْ جَازَ قِيَاسُكُمْ عَلَى مُخَالِفِيكُمْ جَازَ قِيَاسُهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ قُلْتُمْ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَالِمٌ لَا لَحْمَ وَلَا دَمَ، قِيلَ لَكُمْ: كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُورٌ لَا جَسَدَ وَلَا ضَوْءَ سَاطِعٌ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا التَّعْطِيلُ وَالنَّفْيُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ.
قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: وَإِنَّمَا اسْتَوْفَيْتُ هَذَا الْفَصْلَ مِنْ كِتَابِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَلْفَاظِهِ لِتَحْقِيقِهِ هَذَا الْوَصْفَ لِلَّهِ تَمَسُّكًا بِحُكْمِ الْكِتَابِ وَإِنَّهُ لَا يَرَى أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الْكِتَابِ مَا وَجَدَ السَّبِيلَ إِلَى التَّمَسُّكِ بِهِ لِرَأْيٍ وَهَوًى لَا يُوجِبُهُ أَصْلٌ صَحِيحٌ، قَالَ: فَقَدْ كَشَفَ عَنْ ذَلِكَ بِغَايَةِ الْبَيَانِ وَأَزَالَ اللَّبْسَ فِيهِ وَأَنَّ السَّمْعَ هُوَ الْحُجَّةُ فِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَجَازِ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يُحْمَلَ مَا وَرَدَ بِهِ السَّمْعُ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى عَلَى الْمَجَازِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ بِالنُّورِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ: الْأُولَى: مَعْنَاهُ هَادٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ مُنَوِّرٌ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ أَنَّ فِي مُصْحَفِهِ مُنَوِّرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالثَّالِثُ: مُزَيِّنٌ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى مُنَوِّرٍ، قَالَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، الرَّابِعُ: أَنَّهُ ظَاهِرٌ، الْخَامِسُ: ذُو النُّورِ، السَّادِسُ أَنَّهُ نُورٌ لَا كَالْأَنْوَارِ، قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ.
قَالَ: وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يُقَالُ لَهُ: نُورٌ إِلَّا بِإِضَافَةٍ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ نُورٌ لَا كَالْأَنْوَارِ، لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَالْعُدُولُ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى أَنَّهُ هَادٍ وَمُنَوِّرٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ هُوَ مَجَازٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لَا يَصِحُّ.
قُلْتُ: أَمَّا حِكَايَتُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بِمَعْنَى هَادٍ فَعُمْدَتُهُ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي رَوَاهُ النَّاسُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْوَالِبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي ثُبُوتِ أَلْفَاظِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْوَالِبِيَّ لَمْ يَسْمَعْهَا مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ، وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْمَعْنَى، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَيْسَ مَقْصُودُهُ بِهِ نَفْيَ حَقِيقَةِ النُّورِ عَنِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِنُورٍ وَلَا نُورَ لَهُ، كَيْفَ وَابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ الَّذِي سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ: " «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ» "، وَهُوَ الَّذِي قَالَ لِعِكْرِمَةَ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: ١٠٣] قَالَ: وَيْحَكَ ذَاكَ نُورٌ، إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ لَمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute