السَّمَاوَاتِ حَتَّى صَارَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، وَأَنَّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا نَظَرُوا إِلَيْهِ فِي الْجَنَّةِ رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ، فَهَذِهِ لَوَازِمُ الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا، أَنْوَاعِ فَوْقِيَّةِ الذَّاتِ وَلَوَازِمِهَا لَا أَنْوَاعِ فَوْقِيَّةِ الْفَضِيلَةِ وَالْمَرْتَبَةِ، فَتَأَمَّلْ هَذَا الْوَجْهَ حَقَّ التَّأَمُّلِ تَعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ أَفْسَدُوا اللُّغَةَ وَالْفِطْرَةَ وَالْعَقْلَ وَالشَّرْعَ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ عَشَرَ: إِنَّهُ لَوْ كَانَتْ فَوْقِيَّةُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَجَازًا لَا حَقِيقَةَ لَهَا لَكَانَ صِدْقُ نَفْيِهَا أَصَحَّ مِنْ صِدْقِ إِطْلَاقِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ صِحَّةَ نَفْيِ اسْمِ الْأَسَدِ عَنِ الرَّجُلِ الشُّجَاعِ، وَاسْمِ الْبَحْرِ عَنِ الْجَوَادِ، وَاسْمِ الْجَبَلِ عَنِ الرَّجُلِ الثَّابِتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَظْهَرُ وَأَصْدَقُ مِنْ إِطْلَاقِ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ، فَلَوْ كَانَتْ فَوْقِيَّتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَكَلَامُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَوَجْهُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَرِضَاهُ وَغَضَبُهُ مَجَازًا لَكَانَ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَا اسْتَوَى عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ الْعَلِيُّ وَلَا الرَّفِيعُ، وَلَا هُوَ فِي السَّمَاءِ وَلَا يَنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ شَيْءٌ وَلَا يَصْعَدُ إِلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا تَكَلَّمَ وَلَا أَمَرَ وَلَا نَهَى، وَلَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ، وَلَا لَهُ وَجْهٌ وَلَا رَحْمَةٌ، وَلَا يَرْضَى وَلَا يَغْضَبُ أَصَحَّ مِنْ إِطْلَاقِ ذَلِكَ، وَأَدْنَى الْأَحْوَالِ أَنْ يَصِحَّ النَّفْيُ كَمَا يَصِحُّ الْإِطْلَاقُ الْمَجَازِيُّ وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ إِطْلَاقَ هَذَا النَّفْيِ تَكْذِيبٌ صَرِيحٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتُ إِنَّمَا هِيَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْيِهَا مَحْذُورٌ، لَا سِيَّمَا وَنَفْيُهَا عَنِ التَّنْزِيهِ وَالتَّعْظِيمِ، وَسَوَّغَ إِطْلَاقَ الْمَجَازِ لِلْوَهْمِ الْبَاطِلِ، بَلِ الْكُفْرِ وَالتَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ، فَهَلْ فِي الظَّنِّ السَّعْيُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامُ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ فَوْقَ هَذَا.
فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ لَا نُطْلِقُ هَذَا أَدَبًا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قِيلَ: الْأَدَبُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِطْلَاقِ وَإِنْ تُرِكَ أَدَبًا، كَمَا إِذَا قِيلَ: إِنَّا لَا نُطْلِقُ عَلَى هَذَا الْقَاضِي الْمَعْرُوفِ أَنَّهُ مَعْزُولٌ أَدَبًا مَعَهُ وَلَا مِنَ السُّلْطَانِ إِذَا مَرِضَ أَنَّهُ مَرِيضٌ أَدَبًا مَعَهُ وَلَا عَلَى الْأَمِيرِ إِنَّهُ قَدْ عَمِيَ أَدَبًا مَعَهُ، فَهَذَا الْأَدَبُ إِنَّمَا هُوَ عَنْ إِمْسَاكِ التَّكَلُّمِ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا عَنْ صِحَّةِ إِطْلَاقِهِ فَنَسْأَلُكُمْ هَلْ يَصِحُّ إِطْلَاقُ هَذَا النَّفْيِ عِنْدَكُمْ لُغَةً أَوْ عَقْلًا أَمْ لَا، فَإِنْ قُلْتُمْ إِطْلَاقُهُ يُوهِمُ نَفْيَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ فَيَكُونُ مُمْتَنَعًا، قِيلَ فَلَا يُمْتَنَعُ حِينَئِذٍ أَنْ تَقُولُوا لَيْسَ بِمُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ حَقِيقَةً، وَلَا هُوَ فَوْقَ الْعَالَمِ حَقِيقَةً، وَلَا الْقُرْآنُ كَلَامُهُ حَقِيقَةً، وَلَا هُوَ آمِرٌ وَلَا نَاهٍ حَقِيقَةً، وَلَا هُوَ عَالِمٌ حَيٌّ حَقِيقَةً، كَمَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ هَذَا الرَّجُلُ بِأَسَدٍ حَقِيقَةً، وَلَا رَيْبَ أَنَّكُمْ لَا تَتَحَاشَوْنَ مِنْ هَذَا النَّفْيِ عَنِ اللَّهِ، لَكِنْ تُمْسِكُونَ عَنْهُ خَوْفَ الشَّنَاعَةِ، وَهَيْهَاتَ الْخَلَاصُ لَكُمْ مِنْهَا، وَقَدْ أَنْكَرْتُمْ حَقَائِقَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute