الْوَجْهُ التَّاسِعُ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: ٢٥] فَالْكِتَابُ كَلَامُهُ وَالْمِيزَانُ عَدْلُهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُمَا مَعَ رُسُلِهِ، ثُمَّ قَالَ: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: ٢٥] وَلَمْ يَقُلْ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْحَدِيدَ، فَلَمَّا ذَكَرَ كَلَامَهُ وَعَدْلَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُمَا مَعَ رُسُلِهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ مَخْلُوقَهُ النَّاصِرَ لِكِتَابِهِ وَعَدْلِهِ أَطْلَقَ إِنْزَالَهُ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِهِ إِنْزَالَ كَلَامِهِ، فَالْمُسَوِّي بَيْنَ الْإِنْزَالَيْنِ مُخْطِئٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى.
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: إِنَّ نُزُولَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا قَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَوَاهُ عَنْهُ نَحْوَ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ نَفْسًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُبَلِّغُهُ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ وَمَجْمَعٍ، فَكَيْفَ تَكُونُ حَقِيقَتُهُ مُحَالًا وَبَاطِلًا وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَكَلَّمُ بِهَا دَائِمًا وَيُعِيدُهَا وَيُبْدِيهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَلَا يَقْرِنُ بِاللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَجَازِهِ بِوَجْهٍ مَا، بَلْ يَأْتِي بِمَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ الْحَقِيقَةِ؟ كَقَوْلِهِ: " «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي» " وَقَوْلُهُ: " «مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيهِ، مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرُ لَهُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَهُ» "، وَقَوْلُهُ: " «فَيَكُونُ كَذَلِكَ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ ثُمَّ يَعْلُو عَلَى كُرْسِيِّهِ» " فَهَذَا كُلُّهُ بَيَانُ الْإِرَادَةِ الْحَقِيقَةِ، وَمَانِعُ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَجَازِ، وَقَدْ صَرَّحَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ آخِرُهُمْ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِذَاتِهِ، وَنَظَمَ أَبُو الْفَرَجِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:
أَدْعُوكَ لِلْوَصْلِ تَأْبَى ... أَبْعَثُ رَسُولِي فِي الطَّلَبِ
أَنْزِلُ إِلَيْكَ بِنَفْسِي ... أَلْقَاكَ فِي النُّوَّامِ
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَبِي الْقَاسِمِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ التَّيْمِيِّ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ مُجَدِّدًا لِلدِّينِ فِي رَأْسِ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ قَالَ: وَكَانَ مِنَ اعْتِقَادِ الْإِمَامِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ نُزُولَ اللَّهِ بِالذَّاتِ وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي مَذْهَبِهِ وَقَدْ كَتَبَهُ فِي فَتَاوٍ عَدِيدَةٍ، وَأَمْلَى فِيهِ إِمْلَاءً إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِسْنَادُ حَدِيثِ نُعَيْمِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute