للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الثَّانِيَةُ: الْإِنْزَالُ مِنَ السَّمَاءِ، كَقَوْلِهِ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: ٤٨] .

الثَّالِثَةُ: إِنْزَالٌ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: ١] وَقَوْلِهِ: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: ٤٢] وَقَوْلِهِ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: ١] وَقَوْلِهِ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: ١٠٢] وَقَالَ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: ١١٤] فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْهُ، وَالْمَطَرُ مُنَزَّلٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَالْحَدِيدُ وَالْأَنْعَامُ مُنَزَّلَانِ نُزُولًا مُطْلَقًا، وَبِهَذَا يَظْهَرُ تَلْبِيسُ الْمُعَطِّلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ قَالُوا إِنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُنَزَّلًا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا، كَالْمَاءِ وَالْحَدِيدِ وَالْأَنْعَامِ، حَتَّى عَلَا بَعْضُهُمْ فَاحْتَجَّ عَلَى كَوْنِهِ مَخْلُوقًا بِكَوْنِهِ مُنَزَّلًا، وَالْإِنْزَالُ بِمَعْنَى الْخَلْقِ.

اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَرَّقَ بَيْنَ النُّزُولِ مِنْهُ وَالنُّزُولِ مِنَ السَّمَاءِ، فَجَعَلَ الْقُرْآنَ مُنَزَّلًا مِنْهُ، وَالْمَطَرَ مُنَزَّلًا مِنَ السَّمَاءِ، وَحُكْمُ الْمَجْرُورِ بِمِنْ فِي هَذَا الْبَابِ حُكْمُ الْمُضَافِ وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا، كَبَيْتِ اللَّهِ وَنَاقَةِ اللَّهِ وَرُوحِ اللَّهِ وَعَبْدِهِ، فَهَذَا إِضَافَةُ مَخْلُوقٍ إِلَى خَالِقِهِ، وَهِيَ إِضَافَةُ اخْتِصَاصٍ وَتَشْرِيفٍ.

الثَّانِي: إِضَافَةُ صِفَةٍ إِلَى مَوْصُوفِهَا كَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعِلْمِهِ وَحَيَاتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلَامِهِ وَوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ، فَهَذَا يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمُضَافُ فِيهِ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا، بَلْ هُوَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ سُبْحَانَهُ.

إِذَا عُرِفَ هَذَا فَهَكَذَا حُكْمُ الْمَجْرُورِ بِمِنْ، فَقَوْلُهُ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: ١٣] لَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ أَوْصَافًا لَهُ قَائِمَةً بِهِ، وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: ١٣] وَقَوْلُهُ: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: ٤٢] يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ، وَأَنَّهُ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَلُبِّسَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى هَذَا الْفُرْقَانِ، وَجَعَلُوا الْجَمِيعَ بَابًا وَاحِدًا، وَقَابَلَهُمْ طَائِفَةُ الِاتِّحَادِيَّةِ وَجَعَلُوا الْجَمِيعَ مِنْهُ بَعْضَ التَّبْعِيضِ وَالْجُزْئِيَّةِ وَلَمْ يَهْتَدِ الطَّائِفَتَانِ لِلْفَرْقِ.

<<  <   >  >>