قَوْلُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، فَهُمْ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَا قَامَ بِالْعَبْدِ وَمَا قَامَ بِالرَّبِّ، وَالْقُرْآنُ عِنْدَهُمْ جَمِيعُهُ كَلَامُ اللَّهِ، حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ، وَأَصْوَاتُ الْعِبَادِ وَحَرَكَاتُهُمْ، وَأَدَاؤُهُمْ وَتَلَفُّظُهُمْ، كُلُّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ بَائِنٌ عَنِ اللَّهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَرَّرْتُمْ فَكَيْفَ أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ. وَبَدَّعَهُ وَنَسَبَهُ إِلَى التَّجَهُّمِ، وَهَلْ كَانَتْ مِحْنَةُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيِّ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى هَجَرَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَنَسَبُوهُ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ.
قِيلَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُظَنَّ بِأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ هَذَا الظَّنُّ الْفَاسِدُ، فَقَدْ صَرَّحَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ (خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ) وَفِي آخِرِ (الْجَامِعِ) بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَقَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: أَدْرَكْتُ مَشْيَخَتَنَا مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمٌ الْقَارِي قَالَ سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: قَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: أَبْلِغْ أَبَا فُلَانٍ الْمُشْرِكَ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ دِينِهِ، وَكَانَ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، ثُمَّ سَاقَ قِصَّةَ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ وَأَنَّهُ ضَحَّى بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ وَقَالَ إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ.
هَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِمَا مِنْ سَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَخَفِيَ تَفْرِيقُ الْبُخَارِيِّ وَتَمْيِيزُهُ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، وَلَمْ يَفْهَمْ بَعْضُهُمْ مُرَادَهُ وَتَعَلَّقُوا بِالْمَنْقُولِ عَنْ أَحْمَدَ نَقْلًا مُسْتَفِيضًا أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جَهْمِيٌّ: وَمَنْ قَالَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ، وَسَاعَدَ ذَلِكَ نَوْعُ حَسَدٍ بَاطِنٍ لِلْبُخَارِيِّ لِمَا كَانَ اللَّهُ نَشَرَ لَهُ مِنَ الصِّيتِ وَالْمَحَبَّةِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ وَاجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَيْهِ حَيْثُ حَلَّ، حَتَّى هُضِمَ كَثِيرٌ مِنْ رِيَاسَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَامْتَعَضُوا لِذَلِكَ، فَوَافَقَ الْهَوَى الْبَاطِنُ الشُّبْهَةَ النَّاشِئَةَ مِنَ الْقَوْلِ الْمُجْمَلِ، وَتَمَسَّكُوا بِإِطْلَاقِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَإِنْكَارِهِ عَلَى مَنْ قَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute