للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَهَذَا الْمَنْعُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مِنْ كَمَالِ عِلْمِهِ بِاللُّغَةِ وَالسُّنَّةِ وَتَحْقِيقِهِ لِهَذَا الْبَابِ فَإِنَّهُ امْتُحِنَ بِهِ مَا لَمْ يُمْتَحَنْ بِهِ غَيْرُهُ، وَصَارَ كَلَامُهُ قُدْوَةً وَإِمَامًا لِحِزْبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِي قَصَدَهُ أَحْمَدُ أَنَّ اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: الْمَلْفُوظُ نَفْسُهُ وَهُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْعَبْدِ وَلَا فِعْلٍ لَهُ، الثَّانِي: التَّلَفُّظُ بِهِ وَالْأَدَاءُ لَهُ وَفِعْلُ الْعَبْدِ، فَإِطْلَاقُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّفْظِ قَدْ تُوهِمُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَهُوَ خَطَأٌ، وَإِطْلَاقُ نَفْيِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ قَدْ يُوهِمُ الْمَعْنَى الثَّانِيَ وَهُوَ خَطَأٌ، فَمَنَعَ الْإِطْلَاقَيْنِ.

وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ مَيَّزَ وَفَصَلَ وَأَشْبَعَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ وَفَرَّقَ بَيْنَ مَا قَامَ بِالرَّبِّ وَبَيْنَ مَا قَامَ بِالْعَبْدِ، وَأَوْقَعَ الْمَخْلُوقَ عَلَى تَلَفُّظِ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ وَأَكْسَابِهِمْ، وَنَفَى اسْمَ الْخَلْقِ عَنِ الْمَلْفُوظِ وَهُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي سَمِعَهُ جَبْرَائِيلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَسَمِعَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ جَبْرَائِيلَ، وَقَدْ شَفَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ (خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ) وَأَتَى فِيهَا مِنَ الْفُرْقَانِ وَالْبَيَانِ بِمَا يُزِيلُ الشُّبْهَةَ، وَيُوَضِّحُ الْحَقَّ، وَيُبَيِّنُ مَحَلَّهُ مِنَ الْإِمَامَةِ وَالدِّينِ، وَرَدَّ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ أَحْسَنَ الرَّدِّ.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ: فَأَمَّا مَا احْتَجَّ الْفَرِيقَانِ لِمَذْهَبِ أَحْمَدَ وَيَدَّعِيهِ كُلٌّ لِنَفْسِهِ فَلَيْسَ بِثَابِتِ كَثِيرٍ مِنْ أَخْبَارِهِمْ، وَرُبَّمَا لَمْ يَفْهَمُوا دِقَّةَ مَذْهَبِهِ، بَلِ الْمَعْرُوفُ عَنْ أَحْمَدَ وَأَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَا سِوَاهُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَأَنَّهُمْ كَرِهُوا الْبَحْثَ وَالتَّفْتِيشَ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْغَامِضَةِ وَتَجَنُّبِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْخَوْضَ وَالتَّنَازُعَ إِلَّا فِيمَا جَاءَ بِهِ الْعِلْمُ وَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَالْفَرِيقَانِ اللَّذَانِ عَنَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَتَصَدَّى لِلرَّدِّ عَلَيْهِمَا وَإِبْطَالِ قَوْلِهِمَا، ثُمَّ أَخْبَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ الزَّائِغَتَيْنِ تَحْتَجُّ بِأَحْمَدَ، وَتَزْعُمُ أَنَّ قَوْلَهَا قَوْلُهُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ أُولَئِكَ اللَّفْظِيَّةَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ التِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ وَالْقِرَاءَةُ هِيَ الْمَقْرُوءُ وَالْكِتَابَةُ هِيَ الْمَكْتُوبُ.

وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: التِّلَاوَةُ وَالْقِرَاءَةُ مَخْلُوقَةٌ، وَيَقُولُونَ: أَلْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ، وَمُرَادُهُمْ بِالتِّلَاوَةِ وَالْقُرْآنِ نَفْسُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي سُمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَتْلُوُّ الْمَقْرُوءُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْقُرْآنِ، فَإِذَا قَالُوا: الْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَرَادُوا بِهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَهُوَ الْمَتْلُوُّ الْمَقْرُوءُ، وَأَمَا الْمَقْرُوءُ الْمَسْمُوعُ الْمُثْبَتُ فِي الْمَصَاحِفِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ وَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ

<<  <   >  >>