للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَعَلَيْهِ أَمُوتُ وَعَلَيْهِ أُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ: أَيُّ عَيْنٍ أَصَابَتْ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ بِمَا نَقِمَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ قَدْ بَوَّبَ فِي آخِرِ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ بَابًا مُتَرْجَمًا (ذِكْرُ قِرَاءَةِ الْفَاجِرِ وَالْمُنَافِقِ وَأَنَّ أَصْوَاتَهُمْ لَا تُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ) نَذْكُرُ فِيهِ حَدِيثَ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْأُتْرُجَّةِ» . . . " الْحَدِيثَ، وَحَدِيثُ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ. . .» " الْحَدِيثَ، فَقَالَ لِي كَيْفَ قُلْتَ؟ فَأَعَدْتُهُ عَلَيْهِ، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ: مَا بَلَغَنِي هَذَا عَنْهُ.

وَمُرَادُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الثِّقَلَ فِي الْمِيزَانِ وَالْخِفَّةَ عَلَى اللِّسَانِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الْعَبْدِ وَكَسْبِهِ، وَهُوَ صَوْتُهُ وَتَلَفُّظُهُ لَا يَعُودُ إِلَى مَا قَامَ بِالرَّبِّ تَعَالَى مِنْ كَلَامِهِ وَصِفَاتِهِ، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْفَاجِرِ لَا تُجَاوِزُ حَنْجَرَتَهُ، فَلَوْ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ هِيَ نَفْسَ مَا قَامَ بِالرَّبِّ مِنَ الْكَلَامِ وَهِيَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ، فَإِنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالرَّبِّ حِينَئِذٍ.

فَالْبُخَارِيُّ أَعْلَمُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَوْلَى بِالصَّوَابِ فِيهَا مِنْ جَمِيعِ مَنْ خَالَفَهُ، وَكَلَامُهُ أَوْضَحُ وَأَمْتَنُ مِنْ كَلَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ سَدَّ الذَّرِيعَةَ حَيْثُ مَنَعَ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْمَخْلُوقِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا عَلَى اللَّفْظِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَرَادَ سَدَّ بَابِ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنَّمَا كَرِهَ أَحْمَدُ ذَلِكَ وَمَنَعَ ; لِأَنَّ اللَّفْظَ فِي اللُّغَةِ الرَّمْيُ وَالْإِسْقَاطُ يُقَالُ لَفِظَ الطَّعَامَ مِنْ فِيهِ وَلَفِظَ الشَّيْءَ مِنْ يَدِهِ إِذَا رَمَى بِهِ، فَكَرِهَ أَحْمَدُ إِطْلَاقَ ذَلِكَ عَلَى الْقُرْآنِ، وَقَالَ طَائِفَةٌ: إِنَّمَا مُرَادُ أَحْمَدَ أَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ الْمَلْفُوظِ فَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَفْظَهُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جَهْمِيٌّ.

وَأَمَّا مَنْعُهُ أَنْ يُقَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَإِنَّمَا مَنَعَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنْ نَفْسِ قَوْلِ السَّلَفِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا الْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالْقُرْآنُ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى، فَإِذَا خُصَّ اللَّفْظُ بِكَوْنِهِ غَيْرَ مَخْلُوقٍ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْكَلَامِ أَوْ نَقْصًا مِنَ الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ ذَلِكَ بِأَلْفَاظٍ خَاصَّةٍ، وَهَذَا كَمَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ: السَّبْعُ الطِّوَالُ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا، لَكِنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، وَكُلُّ هَذَا عُدُولٌ عَمَّا أَرَادَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.

<<  <   >  >>