وَحَيْثُ تَصَرَّفَ كَلَامُ اللَّهِ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَكَانَ يَقُولُ بِخَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتِهِمْ، وَإِنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنَ الْقَارِئِ هُوَ صَوْتُهُ وَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَيَقُولُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» " مَعْنَاهُ يُحَسِّنُهُ بِصَوْتِهِ، كَمَا قَالَ " «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» ".
وَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَنِ احْتَجَّ بِكَلَامِ أَحْمَدَ عَلَى شَيْءٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: صِحَّةُ النَّقْلِ عَنْ ذَلِكَ الْقَائِلِ، وَالثَّانِي: مَعْرِفَةُ كَلَامِهِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: فَمَا احْتَجَّ بِهِ الْفَرِيقَانِ مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ لَيْسَ بِثَابِتِ كَثِيرٍ مِنْ أَخْبَارِهِمْ، وَرُبَّمَا لَمْ يَفْهَمُوا دِقَّةَ مَذْهَبِهِ فَذَكَرَ أَنَّ مِنَ الْمَنْقُولِ عَنْهُ مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ، وَالثَّابِتُ عَنْهُ قَدْ لَا يَفْهَمُونَ مُرَادَهُ لِدِقَّتِهِ عَلَى أَفْهَامِهِمْ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ عِنْدَنَا قَوْمًا يَقُولُونَ إِنَّ أَلْفَاظَهُمْ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يَتَوَجَّهُ الْعَبْدُ لِلَّهِ بِالْقُرْآنِ بِخَمْسَةِ أَوْجُهٍ وَهُوَ فِيهَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ: حِفْظٌ بِقَلْبٍ، وَتِلَاوَةٌ بِلِسَانٍ، وَسَمْعٌ بِأُذُنٍ، وَنَظْرَةٌ بِبَصَرٍ، وَخَطٌّ بِيَدٍ، فَالْقَلْبُ مَخْلُوقٌ وَالْمَحْفُوظُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالتِّلَاوَةُ مَخْلُوقَةٌ وَالْمَتْلُوُّ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالسَّمْعُ مَخْلُوقٌ وَالْمَسْمُوعُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالنَّظَرُ مَخْلُوقٌ وَالْمَنْظُورُ إِلَيْهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالْكِتَابَةُ مَخْلُوقَةٌ وَالْمَكْتُوبُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَمَاتَ أَحْمَدُ فَرَأَيْتُهُ فِي النَّوْمِ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ خُضْرٌ وَبِيضٌ، وَعَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ مِنَ الذَّهَبِ مُكَلَّلٌ بِالْجَوَاهِرِ وَفِي رِجْلَيْهِ نَعْلَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ غَفَرَ لِي وَقَرَّبَنِي وَأَدْنَانِي، فَقَالَ: قَدْ غَفَرْتُ لَكَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَبِّ بِمَاذَا؟ قَالَ: بِقَوْلِكَ كَلَامِي غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
فَفَرَّقَ أَحْمَدُ بَيْنَ فِعْلِ الْعَبْدِ وَكَسْبِهِ وَمَا قَامَ بِهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَبَيْنَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ كَسْبُهُ وَهُوَ غَيْرُ، وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ هَذَا التَّفْرِيقَ لَمْ يَسْتَقِرَّ لَهُ قَدَمٌ فِي الْحَقِّ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ الْمَسْمُوعُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ صَوْتُ الْعَبْدِ، وَأَمَّا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ الْقَائِمُ بِهِ فَإِنَّا لَا نَسْمَعُهُ، وَكَيْفَ يَكُونُ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ غَيْرَ مَخْلُوقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ الْمِدَادُ وَالْوَرَقُ، وَكَيْفَ يَكُونُ الْمَحْفُوظُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَإِنَّمَا هُوَ الصَّدْرُ وَمَا حَوَاهُ وَاشْتَمَلَ عَلَيْهِ، فَهَلِ انْتَقَلَ الْقَدِيمُ وَحَلَّ فِي الْمُحْدَثِ أَوِ اتَّحَدَ بِهِ وَظَهَرَ فِيهِ فَإِنْ أَزَلْتُمْ هَذِهِ الشُّبْهَةَ انْجَلَى الْحَقُّ وَظَهَرَ الثَّوَابُ، إِلَّا فَالْغَبَشُ مَوْجُودٌ وَالظُّلْمَةُ مُنْعَقِدَةٌ.
قِيلَ: قَدْ زَالَ الْغَبَشُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَزَالَتِ الظُّلْمَةُ بِبَعْضِ مَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ مَا حِيلَةُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute