وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: " «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ» " تَحْقِيقًا لِثُبُوتِ الرُّؤْيَةِ وَنَفْيًا لِاحْتِمَالِ مَا يُوهِمُ خِلَافَهَا، فَأَتَى بِغَايَةِ الْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ بِأَرْضٍ دَوِيَّةٍ مُهْلِكَةٍ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَطَلَبَهَا حَتَّى يَئِسَ مِنْهَا، فَاضْطَجَعَ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ فَرَأَى رَاحِلَتَهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَقَامَ فَأَخَذَهَا فَجَعَلَ يَقُولُ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ " هَذِهِ أَلْفَاظُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: " كَيْفَ تَرَوْنَ فَرَحَ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ؟ " قَالُوا: " عَظِيمًا يَا رَسُولَ اللَّهِ "، قَالَ: " فَوَاللَّهِ لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ» ".
فَهَذَا الْكَشْفُ وَالْبَيَانُ وَالْإِيضَاحُ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ تَقْرِيرٌ لِثُبُوتِ هَذِهِ الصِّفَةِ، وَنَفْيِ الْإِجْمَالِ وَالِاحْتِمَالِ عَنْهَا.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ النِّدَاءِ: ( «فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ» ) فَذَكَرَ الصَّوْتَ تَحْقِيقًا لِصِفَةِ النِّدَاءِ وَتَقْرِيرًا، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ لَدَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ النِّدَاءِ، كَمَا لَوْ قِيلَ: يَعْلَمُ بِعِلْمٍ وَيَقْدِرُ بِقُدْرَةٍ وَيُبْصِرُ بِبَصَرٍ، وَهَذَا وَنَحْوُهُ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ تَحْقِيقُ الصِّفَةِ وَإِثْبَاتُهَا، لَا تَشْبِيهُ الْمَوْصُوفِ وَتَمْثِيلُهُ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: ١١] إِنَّمَا سَبَقَ لِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَعَظَمَتِهَا لَا لِنَفْيِهَا كَمَا قَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ فِي قَوْلِهِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: ١١] قَالَ مَعْنَاهُ هُوَ أَحْسَنُ الْأَشْيَاءِ وَأَجْمَلُهَا، وَقَالَتِ الجَهْمِيَّةُ: مَعْنَاهُ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ.
وَمِنْ هَذَا حَدِيثُ الصُّورَةِ وَقَوْلُهُ: " «خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ» " لَمْ يُرِدْ بِهِ تَشْبِيهَ الرَّبِّ وَتَمْثِيلَهُ بِالْمَخْلُوقِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَحْقِيقَ الْوَجْهِ وَإِثْبَاتَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ صِفَةً وَمَحَلًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ عَمَّا يُشْكِلُ عَلَيْهِمْ مِنَ الصِّفَاتِ فَيُجِيبُهُمْ بِتَقْرِيرِهَا، لَا بِالْمَجَازِ وَالتَّأْوِيلِ الْبَاطِلِ، كَمَا سَأَلَهُ أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ عَنْ صِفَةِ الضَّحِكِ لَمَّا قَالَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute