وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ٣٠ {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: ١١٦] قَالَ نَزَلَتْ فِي عُلَمَاءِ السُّوءِ الَّذِينَ يُفْتُونَ النَّاسَ بِآرَائِهِمْ وَيَكْفِي فِي هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: ٦٥] وَفَرْضُ تَحْكِيمِهِ لَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِهِ بَلْ ثَابِتٌ بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا كَانَ ثَابِتًا فِي حَيَاتِهِ وَلَيْسَ تَحْكِيمُهُ مُخْتَصًّا بِالْعَمَلِيَّاتِ دُونَ الْعِلْمِيَّاتِ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الزَّيْغِ وَالْإِلْحَادِ.
وَقَدِ افْتَتَحَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْخَبَرَ بِالْقَسَمِ الْمُؤَكَّدِ بِالنَّفْيِ قَبْلَهُ وَأَقْسَمَ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ حَتَّى يُحَكِّمُوا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ مِنْ دَقِيقِ الدِّينِ وَجَلِيلِهِ وَفُرُوعِهِ وَأُصُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ مِنْهُمْ بِهَذَا التَّحْكِيمِ حَتَّى يَنْتَفِيَ الْحَرَجُ، وَهُوَ الضِيقُ مِمَّا حَكَمَ بِهِ فَتَنْشَرِحَ صُدُورُهُمْ لِقَبُولِ حُكْمِهِ انْشِرَاحًا لَا يَبْقَى مَعَهُ حَرَجٌ ثُمَّ يُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا أَيْ يَنْقَادُوا انْقِيَادًا لِحُكْمِهِ.
وَاللَّهُ يَشْهَدُ وَرَسُولُهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ أَنَّ مَنْ قَالَ أَدِلَّةُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ وَأَنَّ أَحَادِيثَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَخْبَارُ آحَادٍ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذَا التَّحْكِيمِ، وَهُوَ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: ٥٩] الْآيَةَ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الرَّدَّ إِلَيْهِ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ وَالرُّجُوعُ إِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَاتَّفَقُوا أَنَّ فَرْضَ هَذَا الرَّدِّ لَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِهِ فَإِنْ كَانَ مُتَوَاتِرُ أَخْبَارِهِ وَآحَادِهَا لَا تُفِيدُ عِلْمًا وَلَا يَقِينًا لَمْ يَكُنْ لِلرَّدِّ إِلَيْهِ وَجْهٌ.
وَلَمَّا أَصَّلَ أَهْلُ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ هَذَا الْأَصْلَ رَدُّوا مَا تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ هَذَا الْبَابِ إِلَى مَنْطِقِ الْيُونَانِ، وَخَيَالَاتِ الْأَذْهَانِ، وَوَحْيِ الشَّيْطَانِ، وَرَأْيِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَهَؤُلَاءِ يَتَنَاوَلُهُمْ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: ٦٠] وَالطَّاغُوتُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا تَعَدَّى حَدَّهُ وَتَجَاوَزَ طَوْرَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الَّذِي يَتَحَاكَمُ إِلَيْهِ أَهْلُ الزَّيْغِ حَدُّهُ أَنْ يَكُونَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ لَا حَاكِمًا.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حَالِ هَؤُلَاءِ الْمُتَحَاكِمِينَ إِلَى غَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute