للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فَقَدْ نَصَّ كَمَا تَرَى بِأَنَّهُ إِذَا رَوَاهُ وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ يُصَدَّقُ الرَّاوِي عِنْدَنَا وَلَا يُنَاقَضُ، هَذَا نَصُّهُ فِي الرِّسَالَةِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا نَفَى هُنَاكَ أَنْ يَكُونَ الْمُعَلِّمُ الْمُسْتَفَادُ مِنْهُ مُسَاوِيًا لِلْعِلْمِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ نَصِّ الْكِتَابِ وَخَبَرِ التَّوَاتُرِ، وَهَذَا حَقٌّ فَإِنَّ الْعِلْمَ يَتَفَاوَتُ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ عَنْ أَحْمَدَ فِي أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ: نُؤْمِنُ بِهَا وَنَعْلَمُ أَنَّهَا حَقٌّ، قَالَ: فَقَطَعَ عَلَى الْعِلْمِ بِهَا، وَذَهَبَ إِلَى ظَاهِرِ هَذَا الْكَلَامِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَقَالُوا: خَبَرُ الْوَاحِدِ إِنْ كَانَ شَرْعِيًّا أَوْجَبَ الْعِلْمَ، قَالَ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عِنْدِي عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ لَا مِنْ جِهَةِ الضَّرُورَةِ.

وَالِاسْتِدْلَالُ يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ تَتَلَقَّاهُ الْأُمَّةُ بِقَبُولٍ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَأٍ، وَإِنَّ قَبُولَ الْأُمَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُجَّةَ قَدْ قَامَتْ عِنْدَهُمْ بِصِحَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الَّذِي لَمْ تَقُمْ بِهِ الْحُجَّةُ لَا تَجْتَمِعُ الْأُمَّةُ عَلَى قَبُولِهِ، وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ قَوْمٌ وَيَرُدُّهُ قَوْمٌ، الثَّانِي: خَبَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ وَاحِدٌ فَيَقْطَعُ بِصِدْقِهِ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ دَلَّ عَلَى عِصْمَتِهِ، الثَّالِثُ: أَنْ يُخْبِرَ الْوَاحِدُ وَيَدَّعِيَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُنْكِرُهُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقِرُّ عَلَى الْكَذِبِ.

الرَّابِعُ: أَنْ يُخْبِرَ الْوَاحِدُ وَيَدَّعِيَ عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ أَنَّهُمْ سَمِعُوهُ مِنْهُ، فَلَا يُنْكِرُهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صِدْقٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذِبًا لَمْ تَتَّفِقْ دَوَاعِيهِمْ عَلَى السُّكُوتِ عَنْ تَكْذِيبِهِ، وَالْعِلْمُ الْوَاقِعُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مُكْتَسَبٌ، لِأَنَّهُ وَاقِعٌ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ. .

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ: قُلْتُ حَصْرُهُ لِأَخْبَارِ الْآحَادِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ لَيْسَ بِجَامِعٍ؛ لِأَنَّ مِمَّا يُوجِبُ الْعِلْمَ مَا تَلَقَّاهُ الرَّسُولُ أَيْضًا بِالْقَبُولِ، كَأَخْبَارِهِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَبِمَا أَخْبَرَ بِهِ مُصَدِّقًا لَهُ فِيهِ، وَمِنْهَا إِخْبَارُ شَخْصَيْنِ عَنْ قِصَّةٍ يَعْلَمُ أَنَّهُمَا لَمْ يَتَوَاطَآ عَلَيْهَا وَيَبْعُدُ فِي الْعَادَةِ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْكَذِبِ فِيهَا وَالْخَطَأِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

قُلْتُ: أَخْبَارُ الْآحَادِ الْمُوجِبَةُ لِلْعِلْمِ وَلَا تَنْحَصِرُ، بَلْ يَجِدُ الْمُخْبَرُ عِلْمًا لَا يَشُكُّ فِيهِ بِكَثِيرٍ مِنْهَا، كَمَا إِذَا أَخْبَرَهُ مَنْ لَمْ يُجَرِّبْ عَلَيْهِ كَذِبًا قَطُّ أَنَّهُ شَاهَدَهُ، فَإِذًا يَجْزِمُ بِهِ جَزْمًا ضَرُورِيًّا أَوْ يُقَارِبُ الضَّرُورَةَ، وَكَمَا إِذَا أَخْبَرَ عَلَيْهِ فِي الْإِخْبَارِ بِهِ ضَرَرٌ، فَأَخْبَرَ بِهِ تَدَيُّنًا وَخَشْيَةً لِلَّهِ تَعَالَى، كَمَا إِذَا أَتَى بِنَفْسِهِ اخْتِيَارًا وَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِحَدٍّ ارْتَكَبَهُ يَطْلُبُ تَطْهِيرَهُ مِنْهُ بِالْحَدِّ، أَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِحَقٍّ ادُّعِيَ بِهِ عَلَيْهِ حَيْثُ لَا بَيِّنَةَ وَلَا يَمِينَ يُطْلَبُ مِنْهُ، وَلَا

<<  <   >  >>